زوج هلالة أبو جندل... وبيرم التونسي
رمضان وهلالة (5)
بعدما تناولت المدام هلالة طعامَ الإفطار الرمضاني في ضيافتنا بمدينة إلمسهورن الألمانية، عادت إلى فندق رويال، لأنها قررت تمديد زيارتها، واتصلت بزوجها "كريم"، وأقنعته بالحضور إلى هنا.
قبل أن تغادرنا طلبت مني، بلباقتها المعهودة، أن ألتفت إلى أعمالي الكتابية ريثما يصل زوجها من هولندا، ووقتها سنلتقي مرة أخرى، إذا لم يكن لدي ما يمنع.
الحقيقة أنني فوجئت بزوج المدام هلالة، الأستاذ "كريم". لا شك في أنني ظلمتُه عندما ظننتُ أنه من طراز "أبو جندل"، الشخصية الكوميدية التي أجاد الفنان الراحل فهد كعيكاتي (أبو فهمي) أداءها، وفيها تشخيص لرجل يساير زوجته ذات الشخصية الطاغية، وينفذ لها طلباتها دون تردد..
قلت لنفسي إن الذين كتبوا معظم البرامج الإذاعية والتلفزيونية الرمضانية القديمة كانوا من الرجال، لذلك كان شائعاً أن يصوروا المرأة على أنها إما مستبدة، مثل أم جندل، أو بطيئة الفهم مثل صبرية في المسلسل الإذاعي المهضوم "صابر وصبرية" الذي كان يكتبه وليد مارديني، ويقدمه تيسير السعدي مع صبا المحمودي، وأما القصاص الشعبي المرحوم حكمت محسن فهو الذي اخترع كاراكتر "أم كامل" المرأة المسترجلة الني تدس منخارها في كل شيء، والممثل الذي جسد شخصية أم كامل هو المرحوم أنور البابا.. وأنور لم يعرف ممثلاً إلا ضمن هذا الكاراكتر الفريد.. لكن أولئك الكتاب والفنانين، في كل الأحوال، كانوا لا يسيئون للمرأة، وغالباً ما يتحملون نقيقها وغلاظتها، وتبقى بين الرجل وامرأته مودة ورحمة.
تدخلت هلالة، قالت: إذا أردنا أن نحكي عن التناقضات بين الشعارات والواقع في تاريخنا، فسنستهلك جلستنا في أشياء غير مجدية
اكتشفتُ، للتو أن "كريم" رجل قوي الشخصية، (لا علاقة له بأبي جندل)، مثقف، متحضر.. بمجرد ما التقينا أخبرني أنه كان يقرأ لي ما كنت أنشره في الصحافة السورية، منذ أوائل الثمانينيات حتى سنة 2011، مع أن الخط العام لقراءاته يتركز عادةً على الدراسات السياسية والفكرية، ويهتم خصوصاً بقضايا التنوير.
وقال إن هلالة نصحته، قبل أن يأتي إلينا، بأن يقرأ التدوينات التي نشرتُها، خلال الفترة السابقة، في مدونة "إمتاع ومؤانسة" بصحيفة "العربي الجديد"، وزودته بالروابط، بقصد أن يكون فعالاً في الحوار.
ضحكت هلالة وقالت ممازحة: نعم. فعلت ذلك خشية أن يجلس بيننا مثل الأطرش في الزَفّة.
قلت: إن المَثَل الشعبي (مثل الأطرش في الزَفّة) ذكي جداً، يجعلنا نتخيل رجلاً أصمَّ جالساً في عرس، وغير منتبه لكل ذلك الصخب، حاله كحال من يتفرج على التلفزيون دون صوت، وهو يذكرني، كلما ذُكر أمامي، بالموسيقار المصري فريد الأطرش.
قالت هلالة: قرأت مقالتك عن فريد الأطرش في موقع "ضفة ثالثة" قبل أيام. وأنا من أنصار أن يُعطى هؤلاء المبدعون حقهم، ويجري التذكير بهم بين حين وآخر.
قلت: نعم. أصلُ عائلة فريد، كما يقول بعض الدارسين، من قبيلة تنوخ التي جاءت من اليمن، وبالمناسبة، تنوخ هي نفس قبيلة شاعر الفلاسفة أبي العلاء المعري.. وكان الجَدُّ الأول لفريد الذي استوطن جبل العرب، يعاني من قلة السمع، فلُقب "الأطرش".. والآن عائلة الأطرش كبيرة جداً، ومشهورة، وأهل منطقة السويداء اعتادوا أن يَجمعوا أسماء العائلات بطريقة جمع التكسير مع إضافة أل التعريف، فيقال عن مجموعة الأفراد من عائلة رزق، مثلاً، "الرُزُوق"، وعن رجال عائلة الأطرش "الطرشان"، هذا مع أنهم يسمعون جيداً، بل إن فريد كان مرهف السمع، بدليل ألحانه العبقرية ذائعة الصيت. ومن أطرف ما جرى مع فريد، حينما كان طفلاً لاجئاً مع والدته وشقيقه الأكبر وشقيقته الصغرى في مصر، أنه اضطر لأن يسمي نفسه "فريد كوسا"، خشية أن تسبب له كنيةُ الأطرش إحراجاً أمنياً، لأن كبير أسرتهم سلطان باشا الأطرش كان قائد ثورة الـ 1925 ضد الفرنسيين، والفرنسيون كان لهم بعض النفوذ في مصر.
أعجب "كريم" بهذه التفاصيل، وقال إن لديه سؤالاً توصّل إليه من خلال قراءته تدويناتي السابقة.. وهو أنني حكيتُ للمدام هلالة عن أغنية كتبها بيرم التونسي في مديح الوحدة العربية بين مصر وسورية 1958- 1961، عنوانها "وحدة ما يغلبها غلاب"، وقلت إن ما كتبه بيرم عن الوحدة كان يفتقر إلى الدقة. لماذا؟
قلت: نعم، يفتقر إلى الدقة، بالإضافة إلى أنه ينطوي على مفارقة عجيبة. يا عزيزي كريم، بيرم التونسي، هذا الذي يمتدح الوحدة العربية، شاعر (عربي) مصري، من مواليد الإسكندرية سنة 1893، ولكن، ولأنه من أصل تونسي، (وتونس بلاد عربية كما تعلم)؛ لم يحصل على الجنسية المصرية حتى سنة 1954، أي بعدما تجاوز سن الستين، وكان قد نُفي من مصر سنة 1920، أفلا ترى أن من الإجحاف بحقه أن يكتب قصيدة رائعة تُشيد بالوحدة العربية، يقول فيها: أنا واقف فوق الأهرام، وقدامي بساتين الشام؟
تدخلت هلالة، قالت: إذا أردنا أن نحكي عن التناقضات بين الشعارات والواقع في تاريخنا، فسنستهلك جلستنا في أشياء غير مجدية.
قلت: معك حق، والأفضل لنا بالفعل أن نبحث عن الأشياء الطريفة، ومنها التعليق الذي سجله المؤرخ السوري "سعد فنصة" على التدوينة الخاصة بأغنية محمد قنديل وحدة ما يغلبها غلاب، قال فيه إن السوريين، بعدما تخلصوا من الوحدة في سنة 1961، صاروا يتندرون على هذه الأغنية، فرسم أحد الفنانين كاريكاتوراً صَوَّرَ فيه جمال عبد الناصر واقفاً فوق أحد الأهرامات يتشوف بعينيه على بساتين الشام!
قال كريم: البارحة، وأنا أحضر نفسي للمجيء إلى هنا، ولئلا أجلس مثل الأطرش في الزفة، قرأتُ بعض الأشياء عن هذا العبقري المشرد بيرم التونسي، وتوصلت إلى أن النفي قد زاد تجربته عمقاً وغنى، وكلما تعرض للفقر والتعب والذل والتشرد والقهر، ازداد شعرُه تألقاً.. من أجمل ما كتب، برأيي، تلك الأبيات التي وصف فيها الصباحَ الباكر في باريس، خلال الأيام الأولى للجوئه فيها. يقول:
الفجرْ نايمْ وأهلكْ يا باريس صاحيينْ
معمرين الطريقْ داخلين على خارجينْ
ومنورين الظلامْ راكبين على ماشيينْ
بنات بتجري وياما للبنات أشغالْ
وعيال تروحْ المدارسْ في الحقيقة رجالْ
ورجالْ ولكن، على كل الرجال أبطالْ
ولسه حامدْ وعيشة واسماعين نايمينْ
(للحديث صلة)..