دفاعاً عن الجنون الأيسري

06 ديسمبر 2016
+ الخط -

في منطقة إدلب يقولون عن الشخص الذي يتمتع بقدر كبير من الجنون (مجنون أيسري). وأنا أعتقد أن أصــل التعـبير سياسي، فهم يقصدون أنه مجنون يساري، متطرف، تمييزاً له عن المجنون الذي ينتمي إلى اليمين المحافظ، أو- كما كانت تتضمن حملات التشكيك والتشهير المتبادلة بين الأنظمة العربية- اليمين العفن!

ولقد عَرَّفت الأنظمة المستبدة، في أدبياتها غير المعلنة، المواطنَ العاقل (الصالح) على أنه الشخص الذي يمشي بجوار الحائط ويقول: "يا رب سترك". النظامي، الصبور، المتفهم، الذي يقتصر في قراءته، إذا قرأ، على النشرات الرسمية، والجرائد المحلية، ويمتنع عن قراءة الجرائد الاستعمارية الإمبريالية المغرضة.

يصغي إلى خطابات المسؤولين في بلده، ويغـربلها ليخلصها من الخطابية والإنشاء، ثم يستخلص منها العبر التي تنفعه في معاشه ومماتـه. لا يقتني سلاحاً، لأن (السلاح في يد المواطن الصالح يجرح!)، ولا يبدي رأياً، فالرأي قد يكون صحيحاً وقد يكون خاطئاً، لذلك فإن الاستغناء عنه أفضل.

يشترك في المسيرات التي ينظمها رجال المخابرات، ويصفق حتى تهترأ يداه، ويهتف حتى تبح حنجرته، ويمتنع عن المشاركة في المظاهرات والاعتصامات ومسيرات الاحتجاج العفوية المشبـوهـة.

إذا جاع فعليه أن يمتدح سياسات التقشف التي تتبعها حكومته الرشيدة، ويغض النظر عن النعـيم الباذخ الذي يعيش فيه المسؤولون، مسوغاً ذلك بأن الذي يحكم لا يجوز أن يكون متضايقــاً من شيء،.. وإن سُلبت حريتُه ينبغي عليه أن يشيد بالشدة والصرامة والحزم، ويذمّ الديمقراطية لأنها، أولاً، بدعة غربية، وثانياً، تَرَفٌ يناسب المجتمعات المتطورة فقط، وثالثاً، تـؤدي إلى حالة فَلَتان أمني، ومن ثم دمار يخدم، بالدرجة الأولى، أعداء الوطن المتربصين به وبمقدراته.

وبما أننا تمكنا من التمييز بين المجنون والعاقل– بالمفهوم المعاصر– فإن علينا الآن، نحن المجانين الأيسريين، أن نشيد بالأخوة العاقلين العرب من المحيط إلى الخليج، لأنهم، بين الحين والآخر يسمحون لنا بالكلام ويصغون إلينا من مبدأ (مجنون يحكي وعاقل يسمع!).

فبرأيهم، إذا حكينا، نكون قد تخلصنا من الشحنات النفسية والعاطفية التي تعتمل في دواخلنا، وهم بدورهم يتغافلون عن كلامنا باعتباره علكاً فارغاً، أو (حكي مجانين!).

ولعله من المفيد، في هذا المقام، أن نذكر بأن العقلاء لا يكتفون بهذا الإجراء التنفيسي لحمايتنا نحن المجانين الأيسريين من أنفسنا وجنوننا، بل يتبعون معنا أساليب مختلفة، كأن يمنعونا من تسلم أي منصب أو وظيفة مهمة، وهم في ذلك محقون إلى أبعد الحدود، لأن المجنون غير قادر على حل مشاكله الشخصية، فكيف سيُسأل عن مشاكل غيره؟!

ويراقبون رسائلنا وفاكساتنا وبريدنا الإلكتروني وهواتفنا الثابتة والمحمولة.. وحتى إذا اتصلت زوجة المجنون الأيسري بزوجها لتذكره بأن لا ينسى أن يحضر معه ربطة خبز، أو جرزة بقدونس، تُسجل المكالمة، من باب الاحتياط، وتُحفظ في إضبارته التي تكبر وتتضخم مع مرور الزمن حتى ليعجز عتال من أولي العزم على زحزحتها من مكانها، فما بالك بحملها؟!

وعلى ذكر أضابير المجانين الأيسريين، يحكى أن أحد العاقلين المحترمين، وهو مسؤول عن حفظ أضابير المجانين، كان يقلب أوراق إحداها في لحظة ضجر، فوجد كلاماً مكتوباً بخط مجنون أيسري، قرأه فلم يفهم مغزاه، وهو التالي:

لن تقوم لهذه الأمة قائمة ما لم يرفع العقلاء أيديهم عن رقاب المجانين!

---------------------------

من مجموعة عصفورية 2010

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...