دخيلك... نريد أن نلعب في فريق الأستاذ
(الجزء الثاني من الأسطورة)
حكيت لحضراتكم، في التدوينة السابقة، عن متنفذ من الأسرة الحاكمة في سورية، يحمل لقب "الأستاذ"، قرر أن يدعم أحد نوادي كرة القدم السورية، ويجعله بطلاً للدوري الممتاز، بالقوة.
الفكرة التي خطرت لـ"الأستاذ"، يومئذ، كانت جد منطقية، فقد حدّث نفسه قائلاً إن أحد أعمامه أسس "سرايا الدفاع" في مطلع الثمانينات، وجعلها دولة ضمن الدولة، وكاد أن يصبح رئيساً للجمهورية بفضلها، وابن عمه الثاني قاد ما عُرف باسم "سرايا الصراع"، والثالث استلم قطاع النفط، والرابع وضع يده على واردات التخليص الجمركي واحتكر التهريب الداخلي والخارجي، والخامس نسوانجي، لم يترك امرأة جميلة في منطقة الساحل إلا وأمر مرافقيه بإحضارها إلى "الشاليه" حتى ولو كانت عروساً في ليلة دخلتها، وقد غاب قطاع الرياضة، هذا القطاعُ الحيوي، عن أذهان أفراد السلالة كلها، ما عدا الأب القائد الذي قال: إني أرى في الرياضة حياة.
وهكذا قرر الأستاذ أن يدخل إلى قطاع الرياضة من بابه الواسع؛ باب كرة القدم. طَرَدَ "الأستاذ" أعضاءَ القيادة السابقة للنادي، لأنهم، برأيه، كْرَارة (حمير) مكررون، وللحقيقة والتاريخ، إن أول مَن ابتكر مصطلح "كر مكرر" واستخدمه ضمن أدبيات فن الشتائم، في هذه المرحلة التاريخية من حياة أمتنا العربية، هو الأستاذ..
عَيَّنَ الأستاذ مكان الأعضاء المطرودين أشخاصاً أذكياء، يفهمون الأوامر بسرعة، وينفذونها دون تردد أو تذمر، وأجمل ما فيهم، برأيه، أنهم لا يتعاطون الأخذ والرد واللعي.. وكان أول بند في خطة الأستاذ يتعلق بشراء لاعبين يرفدون الفريق بدماء جديدة، ويساعدونه على تحقيق الانتصارات.
أوشكتْ مناقشةُ موضوع "شراء اللاعبين"، في أول اجتماع مع الإدارة الجديدة، أن تتسبب بوقوع جدل بين الأستاذ والمدرب، فهذا الأخير اقترح مجموعة من أسماء اللاعبين المعروفين بمقدرتهم على المراوغة في أرض الملعب، وقطع الكرات دون ارتكاب خطأ، وتسجيل الأهداف في مرمى الخصم.. وقال إن اللاعب الجيد هو الذي يستحوذ على الكرة بمهارة، أي دون أن يصفّر له الحَكَم ويشهر في وجهه كارتاً أصفر أو أحمر.. وأخيراً أبدى (المدرب) استعداده للتفاوض مع إدارات النوادي التي تقتني أولئك اللاعبين، والاتفاق معهم على سعر مناسب لكل واحد.
عندما خاب أملهم بالانتقال إلى نادييهم غرغرت الدموع في مآقيهم. ولو لم يعدهم المدرب بأن يشتريهم لاحقاً لطقوا من القهر
قال الأستاذ: شوف يا كابتن، أنا ما راح أقول لك الكلمة اللي بقولها لرفقاتك، قصدي كلمة كر سَادَه، أو كر مكرر، حاشاك، لكن بدي إياك تشيل من بالك الأفكار القديمة اللي عم تحكي فيها. اللاعب الكَيِّس، يا حباب، هو اللاعب القبضاي، الخشن، اللي إذا احتكّ بلاعب خصم، يخليه يقع على الأرض، ويقلب تَقَّالات، ثم يفرفح بيديه ورجليه مثل الخروف المذبوح، ويضطر الحَكَم إنه يركض لعنده، ويعمل بيديه إشارة للفريق الطبي حتى يجيبوا النقالة، ويشيلوه لبره.. وبوقتها بتعرف أنا شو بعمل؟
سأله المدرب: شو بتعمل "معلم"؟
قال الأستاذ: وقف عندك. نحن هون مو بفرع مخابرات، وأنا مو معلم. أنا "أستاذ". هادا الحكي موجه للجميع، أوعكم حدا ينادي لي معلم أو سيدي أو أبو فلان وعلان.
قال المدرب: طيب يا أستاذ، شو بتعمل أنت لما بيوقع اللاعب وبيشلوه ع النقالة؟
الأستاذ: ساعتها بعطي إشارة للكر رئيس رابطة المشجعين تبعنا، وبخلي المشجعين يصيحوا بصوت واحد: بلدية بلدية..
المدرب: شو يعني بلدية أستاذ؟
الأستاذ: يعني تجي السيارة تبع البلدية، بتشيل اللاعب المصاب وبترميه في الزبالة. فهمت؟
قال المدرب صاغراً: أي والله، فهمت يا أستاذ، بس أنا خايف ساعتها ما يعمل لنا الحَكَم بالرز بَصَل، ويطرد اللاعب تبعنا، ونحن بـ 11 لاعب يا دوب عم ناخد تعادُل، بقى شلون إذا لعبنا بعشرة؟
ضرب الأستاذ بيده على طاولة المكتب وقال: خلص بقى كابتن. أنت شو عم تحكي؟ خيي، حكاية الحَكَم الذي يضع في بوزه صافرة ويتجرأ على التصفير ثم إعطاء كارت أصفر أو أحمر للاعب من فريقي، لازم تنساها، هاي صارت من الماضي والذكريات الجميلة، فولكلور. سكر لي بقى على هذا الموضوع.
ابتسم مدرب الفريق وقال مداهناً: والله يا أستاذ أنت قَدّها وقدود (أي: أنت كفء لهذا الأمر)، وبالنسبة لشراء اللاعبين، أنت اعطيني قائمة بالأسماء التي تريدها وأنا مستعد لأن أقعد على البازار (أي أساوم على كل لاعب) وأشتريها. منيح؟
اختار "الأستاذ"، من دوري الدرجة الأولى، خمسة لاعبين ضمن نفس المواصفات التي كان عمه "رفعت" يفضّلها عندما يختار ضباطاً للتطوع في سرايا الدفاع: طول، وعرض، وعضلات، وولاء، وطاعة أوامر. وكان قد حل مشكلة التمويل بسهولة منقطعة النظير، إذ عمم رقم حساب ناديه على مديري الدوائر والمؤسسات الحكومية، فمن أراد التبرع فليرسل المبلغ الذي يطلع من خاطره.. وأرسل أحد عناصره إلى المؤسسة العامة لبيع مواد البناء التي عرفت باسم "إنتروميتال"، وأوعز لمدير المؤسسة شفهياً، وبأمر من الأستاذ، بأنه لا يجوز أن يباع كيس إسمنت واحد، أو طن من الحديد، أو ربع متر من الخشب، دون أن يتبرع المواطن المشتري بمبلغ معين للفريق سين، يعني فريق الأستاذ..
وأعلن، بناء على اقتراح أحد أصدقائه، عن إقامة حفل فني يُباع فيه مسدسه الحربي (ماكاروف عيار ثمانية ونصف) بالمزاد، وأشاع سالفة تقول إنه كان يخوض حرب تشرين 1973، بدبابته، وبعدما استبسل في مقاتلة دبابات العدو، أصيبت دبابته، فأخذ كلاشينكوف من عسكري شهيد، حارب بها حتى نفدت الذخيرة، وهنا تحول القتال إلى حرب شوارع، وبهذا المسدس العظيم استطاع أن يردي قائد لواء العدو به.. على أن يعود ثمن المسدس مع كامل ريع الحفل الفني للنادي..
خلال زمن قياسي بدأت الأموال تنهمر على صندوق النادي، وانطلق المدرب واثنين من معاونيه إلى المحافظات، واشتروا، بسهولة غير متوقعة، اللاعبين الذين حدد الأستاذ أسماءهم.. وقد حكى المدرب للأستاذ أن عدداً لا يستهان به من اللاعبين الآخرين عرضوا أنفسهم عليه، وصاروا يقولون له: نروح معك ببلاش، المهم أن نلعب في فريق الأستاذ.
وعندما خاب أملهم بالانتقال إلى نادييهم غرغرت الدموع في مآقيهم. ولو لم يعدهم المدرب بأن يشتريهم لاحقاً لطقوا من القهر.
(للسالفة تتمة)