دبكة عند باب البلدية الجديدة

11 نوفمبر 2019
+ الخط -
لم أرَ العم "أبو محمد" يضحك مثلما رأيتُه يضحكُ، وهو يصغي إلى حكاية افتتاح بلدية القرية التي رواها "أبو الجود". حكى لنا أبو الجود كيفَ رقصَ الأهالي ودبكوا على البيدر، والنساء الجالسات على أسطح المنازل القريبة من البيدر زغردنَ. وكانت تكاليف الحفلة (لا شيء) لأن الأستاذ "نزار" الذي عينته السلطات رئيساً للبلدية، وهو ابن القرية، لم يكن مزوداً بأية صلاحيات أو أموال.. لذلك اعْتُبِرَ الطبالُ والزمارُ والراقصون كلهم متطوعين!

وقال أبو الجود في تعليقه على نهاية الاحتفالية إن الطبال أبدى امتعاضاً كبيراً، وقال للأستاذ نزار:
- بعمري وحياتي ما مرّْ علي أَنْشَفْ من هالإحتفالْ، يا زلمة أضعفْ الإيمان أطِعْمُونا صندويشة فلافل، وضَيّْفُونا كازوزة ستيمْ.

ضحك الأستاذ نزار وقال ممازحاً: بتؤمر أَمْرْ يو خاي. تفضلوا لعندي عَ البيتْ؛ منتعشى سوا ومنشرب كازوز. بس تَرَى كازوز "ستيم" ما في عندنا، لأنه الـ "ستيم" من زمان التغى، وما عاد نزلْ ع الأسواقْ. لاكنْ الطبالْ بقي مزعوجْ، وسَحَبْ زميلُه الزَمَّارْ من إيده ومشيوا وهني عم يبربروا بكلامْ مو مفهومْ.


قال أبو جهاد: الطبالْ ارتكبْ غلطْ واحدْ. الغلط هوي لما قال: بعمري وحياتي ما مرّْ علي (أَنْشَفْ) من هالإحتفال.. برأيي لازم يقول: بعمري وحياتي ما مرّْ علي أَنْشَحْ (يعني أوسخ) من هالإحتفال. وإنتوا اللي دبكتوا في الإفتتاح مو أحسن من نزار أبداً، بالعكس هوي عم يشتغل لمصلحته، وكان قاصدْ بده يفرجي المحافظ والمجلس التنفيذي للمحافظة إنه نشيط وشَغّيل، لاكن إنتوا بهايم ومهابيلْ وبتنساقوا وَرَا العواطف.

قال أبو الجود: إذا أبو جهادْ ما تْفَلْسَفْ ما بيهنالُه عيشْ. لك خيو نحني في الأساس أعضاء في (الشركة الأهلية لِلَّفّ والدوران عَ الكَعْب)، يعني عواطلية ما عندنا شغل ولا هوايات، وواحدنا ما بيطيق الفوتة ع البيت حتى ما ياكل بهدلة من مَرْتُه، وبالصدفة شفنا طبلْ وزمرْ ع البيدر، دبكنا. أشو خسرنا؟ الرجل اللي بيرقصْ يا أبو جهاد ما بيصرفْ بنزينْ ولا كهربا.. بالعكس، تْنَشَّطْنَا وتْضَحَّكْنَا.

قال أبو جهاد: تْضَحَّكْتُوا؟ كنت بدي أقلك (ضِحْكِتْ عنزة في مسلخ)، بس خفت ما يزعل مني صديقك الأستاذْ كمالْ.

تابع أبو الجود رواية قصته غاضَّاً النظر عن ملاحظة أبو جهاد الأخيرة. قال:
- رئيسْ البلدية الأستاذْ نزارْ صارْ عندُه إحساسْ إنه الطبالْ أهانُه قدامْ أهل الضيعة، منشان هيك ركضْ ومسكْ الطبالْ والزمار، وحط إيديه على كتافهم وقال:
- اسمعوني يا أهل الضيعة. في الأيام اللي جاية راح ناخدْ دَعْمْ للبلدية وراح يرصدوا لنا ميزانية مالية، وراح يصير عندنا مَقَرّ نظامي وموظفين ومحاسبين وكل شي، والبلدْ كل كام يوم بيصيرْ فيها احتفالْ، بعيد ميلاد حزب البعث العربي الاشتراكي، وفي ذكرى ثورة الثامن من آذار المباركة، وذكرى الحركة التصحيحية المجيدة، وأكيد بلديتنا راح تشارك بكل الاحتفالات ومسيرات التأييدْ للقائد المفدى.. ومتلما بتعرفوا، أكتر شي بيلزم بالمناسبات السياسية هوي الطَبْلْ والزَمْرْ.. وأنا بعاهدكم جميعاً إنه في كل المناسبات راح ندعي هالطبال وهالزمار المحترمين لاحتفالاتنا، وراح ندفع لهم أجرتهم وفوقها حبة مسك.

قال كمال: شي غريب. أنا لما سمعتْ عضو مجلس الشعب محمد قَبَنَّضْ عم يحكي عن ممارسة السياسة وتأييدْ القائد ومحاربة الإرهاب بالطبلْ والزمرْ ظنيت هالفكرة العظيمة من اختراعُه.. بينما رئيس بلديتكم سابْقُه إلها بسنين طويلة.

قال أبو الجود: المهم أنه الطبال شَقْرَقْ وفِرِحْ، ونفس الشي الزمار، والطبال صاح: شيبااااش ضيعتنا وبلدية ضيعتنا ورئيس بلدية ضيعتنا الأستاذ نزار، شيبااااش محافظ إدلب، ورئيس مجلس الوزرا، والقائد المفدى حافييييظ.. (ونط مترين في الهوا وقال) شيباااش للكل وهاي قَمْزة.

وبالفعل، بعد شي شهرين أو تلاتة، استأجرتْ البلدية الدار العربية اللي جنب داري، هون أنا انبسطتْ كتيرْ، وأول ما شفت رئيس البلدية سلمت عليه وقلت له: يا أستاذ نزارْ الزقاق تبعنا -شوفة عينك- كله ترابْ ووسخْ متل حارة "القلة" اللي كانت في حلب من زمان شرقي باب الفَرَجْ، ومن كام يوم نِزْلِتْ بَخّة مطر وبدقيقة صار الزقاقْ متل كأنك داهْنُه بصابونْ غارْ.. والدليل إني كنا ماشين أنا وأختك أم الجود، وأنا زحطت ومن عزة الروح سندت حالي عليها وتعربشتْ فيها بإيديّ التنتين، ووقعنا ع الأرض، وأكواعنا تهشمتْ، وصارتْ هيي تولول، وقالت لي (أيش بدي أحكي معك؟ خيرْ ما فيكْ لاكنْ دُخَّانَكْ بيعمي).. بقى الله يرضى عليك، إذا صار في عندك ميزانية بهالبلدية زَفِّتْ لْنَا هالشارعْ خلينا نرتاحْ.

قال أبو جهاد مستخدماً أعلى درجات التهكم: يا سلام عَ الذكا. ليش هوي بده حدا يقله إنه لازم يْزَفِّتْ قدام مقر بلديته؟

قال أبو الجود: لا والله ما بده. وبالفعل أول مشروع استثماري نفذه الأستاذ نزار في قريتنا هو تزفيت الزقاق اللي قدام بيتنا والبلدية. بس آخ.. يا ريتُه ما زَفَّتُه.

قال أبو محمد: أفّ! وليش بقى؟

قال أبو الجود: لأنه التزفيتْ كان ما في أبشع منه، وبعد تلات شهور نزلت مطرْ وصار الشارع عبارة عن حجار ناتئة، والزفت تْجَمَّعْ في مناطق، وانْقَشَطْ في مناطقْ تانية، ولما وقعنا أنا وأم الجود قبل التزفيت كانت الأرض ترابية وما صار معنا شي خطير، لاكن لما تكرر السيناريو وقعنا أنا وهيي شالونا ع المستشفى، وتبين إنه متكسرين تكسير، وبقينا تلات شهور لحتى تخرجنا وطلعنا ع البيت.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...