حكاية "خود عني جيتك" (2)
عُقدت جلسة رائعة في منزل بكار بقرية "البلاطة"، حضرها مدير الناحية أبو عمر، وقاضي معرتمصرين الأستاذ أيمن، وبعض رجال قرية البلاطة من أصدقاء بكار، وأما أم عمر زوجة مدير الناحية، وابنتها عفراء فقد حلتا ضيفتين على أم بكار.. وكانت عناصر البهجة في هذه الأمسية مكتملة، بدأت مع الكبب بأنواعها، ولم تنته من الكنافة أم النارين والفواكه والقهوة والشاي والكازوز.
ولكي يبقى الإخوة القراء في جو حكاياتنا طلبنا من راوي هذه الحكايات أبو الجود أن يرتب الأحداث بطريقة سلسلة، ومنطقية، فقال: الشغلة بسيطة. لما القاضي أيمن أخلى سبيل نبهان، وبمجرد ما طلع من المحكمة، لاقوا له الشباب، وصارت حفلة استقبال ارتجالية، وكان في طبل وزمر ما حدا بيعرف مين اللي دعاهم، وكان واحد متهم بالجنون اسمه فؤاد القندريسي، ولقبه "خود عني جيتك" موجود، ويبدو أن فؤاد انسجم مع الجو فطلع مسدسه وأطلق النار، وانصابت مَرَا كانت ع السطح مع مجموعة نسوان، اسمها أم عبدو.. مدير الناحية، أبو عمر، طلب من صديقه بكار إنه ياخد الشباب المجانين العقلاء ويروح ع البلاطة حتى ما يصطدموا مع أهل المرا اللي تصاوبت، والمسا راح هوي والقاضي أيمن حتى يزوروا بكار.. كويس هيك؟
أم زاهر: كتير كويس. وبعدين؟
أبو الجود: أبو عمر خبر بكار والحاضرين إنه هلق ما عاد في خطر عليهم، لأن أبو عبدو، زوج المرأة اللي تصاوبت، أبدى استعداده لعمل أي شيء ممكن نطلبه منه، وأنا طلبت منه إنه ما يعمل ادعاء شخصي على حدا، هوي قال إنه جاهز. لكن المشكلة الكبيرة حالياً هي مشكلة فؤاد المجنون، وأنا بصراحة ما بعرف إذا كان مجنون ولا لأ.
قال القاضي أيمن: إذا بدكم المظبوط يا جماعة، المشكلة مو بفؤاد، لكن بأخوه، أبو هنداوي. هادا شخص لئيم وغدار، وإذا ما وصل لحقه ممكن يدخل ناحية معرتمصرين كلها بسلسلة مشاكل.
ضحك فؤاد وقال: والله يا خاي أنت قلبك طيب زيادة.. ما بقي غير نقله مسكنا الرزق ونحن منعطيك خرجية..
التفت أبو عمر نحو أيمن باهتمام شديد، وقال: يعني أنت بتعرفه؟
أيمن: أنا ما التقيت فيه، مع أنه حاول يجي لعندي ويعرفني على حاله، بس في كتير أصدقاء نبهوني منه. وبما أنه سيرته انفتحت بحب إنكم إنته وأبو كرم تحذروا منه.
الراوي: لقد اتضح، بحسب ما روى القاضي أيمن، أن مراد القندريسي، أبو هنداوي، رجل سيئ، كان والده واحداً من أغنياء قرية "الضبعة" القريبة من معرتمصرين، وعندما مات الوالد تقدم مراد، باعتباره الابن الأكبر للمرحوم، وتولى عملية القيام بواجبات الدفن والعزاء، محاولاً إبراز نفسه وتهميش أشقائه الثلاثة نهاد وفؤاد وعماد، وبعد مضي أيام التعزية الثلاثة، جاء إخوتُه الشبان وأخواته البنات، وطلبوا منه إبلاغ دائرة النفوس في معرتمصرين بواقعة الوفاة، ثم إجراء حصر إرث قانوني، لكي يأخذ كل منهم حصته من الميراث. لكن أبو هنداوي رجل حقير، حاشاكم، لذا صاح صوتاً بالمقلوب: لااااا.. أنا ما بقسم رزقة أبو مراد.. ما بقسم رزقة أبو مراد ولو على جثتي.
ورفع يديه إلى الأعلى كالدروايش عندما يبتهلون إلى الله، وأخذ يصيح: الله يرحمك يا أبو مراد، تعا شوف ولادك الطماعين، المترتحين، اللي كنت طول النهار تطعميهم أحسن أكل، وتلبسهم أحسن لبس، وتعلمهم في أحسن المدارس، ولادك قليلين الأصل والناموس، كأنهم كانوا عم يحلموا بأنك تموت، حتى يركضوا ويطالبوا بحصصهم، يا أبو مراد، يا ياب، تعا شوف شلون ولادك عم يجاكروك مجاكرة، أنت بدك إياهم إيد وحدة ومتجمعين، وهني بدهم يتفرقوا، بكرة كل واحد منهم بياخد قطعة أرض وبيبيعها وبيصرف تمنها وبيقعد يتدين ويصرف لحتى يصير شحاد.. والبنات، سمعت يا ياب هالسمعة؟ البنات جايين لعندي وبدهن يورتوا، نحن يا ياب في عندنا بنات بيورتوا، وبيعطوا مال أبوهن لأزواجهن؟
خرج إخوة مراد القندريسي وأخواته من بيته مخذولين، وقد أيقنوا أن عملية احتيال واسعة قد بدأت الآن، وهم يعرفون أخاهم حق المعرفة، فهو رجل كذاب، وبلاف، يزعم أنه متدين، ويحب أن يرضي الله ورسوله، وفي الوقت نفسه يتبع الباطل، وأول الناس الذين ينصب عليهم هم إخوته وأخواته..
اجتمع الإخوة والأخوات فيما بينهم، أكثر من مرة، وتدارسوا في الأمر، وأكثر فكرة راودتهم هي إقامة دعوة قضائية على مراد، لإزالة الشيوع، وتقسيم الميراث، ولكنهم متأكدون من أن أبو هنداوي سيدخل معهم في باب المناكفة، والأفضل، في الوقت الحاضر اتباع أسلوب الملاينة مع هذا الأخ الحقير، عسى أن يرضخ للحق، أو أن يمل منهم ومن مطالباتهم فيغضب ويقول لهم: خدوا حصصكم وافرقوني برائحة طيبة.
قال الشقيق الأكبر بينهم نهاد: منروح لعنده مرة تانية، ومنطلب منه يشاركنا في الشغل، لأن عدم المؤاخذة نحن إلنا حصة في هالرزق، متلنا متله، عالقليلة لازم يطلعنا على مصاريف زراعة الأراضي، والموسم اللي بجي بآخر السنة..
ضحك فؤاد وقال: والله يا خاي أنت قلبك طيب زيادة.. ما بقي غير نقله مسكنا الرزق ونحن منعطيك خرجية..
قال عماد: خلينا نجرب. أشو منخسر؟
المهم، راحوا الشباب، لعند أبو هنداوي، ما عدا البنات، لأن البنات في الأساس أملهم ضعيف، ولما عرضوا الفكرة عليه انبلق، أو متلما بيقولوا أهل الشام (انبحتْ متل قباوة على رغيف)، وصار ينط وما يحط، ويصيح: تعوا تفرجوا يا أهل قرية الضبعة، تفرجوا على إخوتي ولاد أمي وأبوي كيف عم يخوّنوني، وعم يشككوا بنزاهتي، ولا كأني أخوهم الكبير، ولا كأن المرحوم أبوي وصاني فيهم، وقال لي دير بالك على إخواتك يا مراد، وإخواتي ما شاء الله عليهم، عم يقابلوا الإحسان بالظن والتخوين، بدهن يراقبوني ويفتحوا دفاتر ويسجلوا علي، ولك ليش؟ ما نحن أهل وإخوة؟
قال فؤاد: نعم نحن كلنا إخوة، ما عداك إنته.
هون بلش الجو يتكهرب. أبو هنداوي كان قاعد وقف، وقال لفؤاد: أشو قلت ولاك؟!
(للقصة تتمة)