حكايات رمضانية.. وساطة مغسل الأموات
في اللقاء اليومي الذي كنا نعقده في مقهى الريحاني بعد الإفطار، كان أبو عناد يسرد لي حكاية الرجل المهدد بالقتل، أبو سمير الترمزاوي، وأنا أصغي إليه، وأثناء ذلك أسترقُ النظر إلى "أبو سمير" الذي كان يجلس في مكان قريب من باب المقهى، يشرب الشاي باستمرار، وشراهة، ويشفط من سيجارته أنفاساً عميقة، ينفثها، فترتفع فوق رأسه غمامة من الدخان، وكلما شارف كأس الشاي الذي أمامه على النفاد يرفع يده مشيراً للنادل "أبو مريد" بأن يأتيه بكأس آخر، فأقول في نفسي:
- لا يوجد في الحياة شيء أصعب من أن يكون الإنسان مهدداً بالقتل، انتقاماً لجريمة ارتكبها غيرُه!
قال أبو عناد:
- يا سيدي، أبو سمير، عندما أبلغوه بأن عائلة "أبو صدفة" قررت قتلَه ثأراً لمقتل ابن عمهم "علي"، جرياً على المبدأ الثأري "راس براس"، قرر أن يعسكر في داره بالقرية إلى حين العثور على مخرج آمن. أرسل ابنه سمير إلى الدكان، اشترى له خمس كروزات سجاير حمراء قصيرة، وجهز لنفسه أبريق شاي كبيراً، وجلس متربعاً على الأرض يدخن، ويشرب شاياً، ويحجّ بجذعه إلى الأمام والخلف، ويفكر في أكثر الطرق أماناً لإبطال قرار قتله. وهذا وضع أصعب بكثير من القتل فيما لو وقع.
تدخلتُ، قلت لـ"أبو عناد": كنت تقول لي إن التعليق على الحكاية يفسدها، وها أنت ذا تتفذلك وتشرح لي أن الوضع النفسي أصعب من القتل.
- صحيح. ولكنني أرى في هذه الحالة شيئاً إيجابياً.
- يا رجل! هل يعقل أن يوجد في القتل شيء إيجابي؟
- في القتل لا يوجد، ولكن التهديد فيه.
- وما هو بعد أمرك؟
- فيه تقدير لـ أبو سمير، ورَفْع من شأنه، فهم سيقتلونه لأنهم يعتبرونه أحسن رجل في عائلة الترمزاوي. هل كان الأمر أحسن لو أنهم يعاملونه معاملة الطرطور!
ضحكت على الرغم مني. وقلت له: أكمل.
- بعد طول صفن، وتدخين، وحَجّ في المكان، اتصل أبو سمير بكبير عائلة الترمزاوي المدعو أبو رافع، ليأخذ رأيه في الموضوع، فانطلق أبو رافع يسب على عائلة أبو صدفة، ويهدد ويتوعد بأنهم إذا قتلوه سيمحوهم كلهم عن وجه الأرض، أو يقتل منهم ثلاثة على الأقل مقابل قتلهم إياه. انتظر أبو سمير حتى انتهى أبو رافع من الجعجعة، وقال له:
- اسمعني منيح، يا ابن العم، وركز معي. الأمر، بحسب كلامك، سيسير وفق التسلسل التالي: أنا أكون ماشياً في أحد أزقة قريتنا "الردادة"، وفجأة يطلع لي واحد من بيت أبو صدفة، ومعه مسدس ملقم، وطاق طاق، يفرغ 14 رصاصة في جسمي، وأنا أسقط على الأرض مثل كيس الخردق، ويأتي أولاد الحلال، ويحملونني إلى المستشفى الوطني بإدلب، فيأتي الطبيب المناوب، ويضع أذنه على قلبي، ويقول: "هذا ميت وشبعان موت، شيلوه". فيشيلني الشباب، ويعودون بي إلى الرَدّادة، وأنتم، باعتباركم أولاد عمي، تقومون بمراسم الدفن، ولا تقصرون بالواجب طبعاً... وأثناء استقبال المعزين، من أهل الردادة والقرى المجاورة، ستقف أنت، وتمسك على شواربك التي تصبغها بلون أسود فاحم مما تصبغ به الصبابيط، وتقول:
- اشهدوا علي يا جماعة، إذا لم أقتل ثلاثة على الأقل من بيت أبو صدفة، مقابل ابن عمي أبو سمير، فلتكن هذه الشوارب على قحـ...!
كنت تقول لي إن التعليق على الحكاية يفسدها، وها أنت ذا تتفذلك وتشرح لي أن الوضع النفسي أصعب من القتل
وبعد انتهاء كل شيء، تجمع رجالك، وتهجم على عائلة أبو صدفة، وعندك نية سليمة بأن تقتل منهم ثلاثة مقابل قتلهم إياي. وقد تتمكن من ذلك فعلاً، ولكن أنا، في هذه الحالة، ماذا أستفيد؟
قال: كيف لا تستفيد؟ ألا تريد أن نأخذ بثأرك؟
قال أبو سمير: إذا أخذتم بثأري، أو تخاذلتم، فالأمران، كلاهما، لا يساويان عندي فردة كندرتي العتيقة التي لا ألبسها في الشتاء لأن أرضها مبعوجة يدخل منها الماء، فتبتل جواربي.. لأنني أكون وقتها متمدداً تحت التراب!
وأغلق الخط دون أن يقول لأبو رافع كلمة وداع.
بلغ إعجابي بهذا الكلام كل مبلغ. قلت لأبو عناد:
- ما رأيك أن نناديه إلى هنا، ونضيفه كأساً من الشاي، وأنا أدعوه إلى تناول طعام الإفطار غداً عندي في البيت. وبهذه المناسبة، نسمع الحكاية منه؟
- لا. إياك أن تفعل. إذا فتحت له السيرة التي يشرب كل هذه الكؤوس من الشاي وكل هذه السجائر لكي ينساها، من أين سيأتي بثمن قميص وبنطلون جديدين؟
وقبل أن أتمكن من سؤاله عن علاقة هذه السيرة بالقميص والبنطلون، قال:
- عندما لجأ أبو سمير إلى إدلب، قبل سنتين، أنا تعرفت عليه هنا في المقهى، وهو ارتاح لي، وسرعان ما صرنا صديقين، وحكى لي حكايته من طاق طاق إلى السلام عليكم. وبعد شي أسبوعين، كنا قاعدين أنا وهو، هناك، إلى تلك الطاولة، وسألته عن آخر مستجدات المشكلة، وفجأة ارتج كيانه، وبَخَّ بلعة الشاي التي كانت في فمه، فنزل رذاذها على قميصه، وانفلتت من فمه السيكارة، ووقعت "النارة" على بنطاله، فلما أحس بلذعها نط، وصار يضرب فخذه، مكان الحريق، بيديه، وأنا حملت كأس الماء ودلقته عليه. وفي المحصلة ما عاد القميص والبنطلون صالحين للبس، وكان واجباً علي، يومها، أن آخذه إلى دكان "عدنان دخان"، وأشتري له قميصاً وبنطلوناً جديدين، ولكنني رجل مفلس، كما تعلم، ومديون، وهو لا يعيش في بحبوحة، ومع ذلك جاء إلى المقهى في اليوم التالي بقميص وبنطلون جديدين، وعندما رآني، سلم علي، وقال لي: يا أبو عناد، أنا وأنت أصحاب، فإذا سمحت، في مرة قادمة، لا تفتح لي تلك سيرة تلك الحادثة.
- طيب يا أبو عناد. أنا سأحاول أن أتعرف على أبو سمير في وقت لاحق. أكمل.
- عندما سمع أبو سمير الجعجعة، والتهديدات الفارغة، من كبير عائلته أبو رافع، دخن علبة سجائر كاملة، مع ثلاثة أباريق شاي، حتى خطرت له فكرة. اتصل برجل من القرية ينتمي إلى أسرة صغيرة، اسمه "أبو شعيب"، وهو إنسان عاقل، ومحبوب من الجميع، لأنه يشتغل في تغسيل الأموات وتكفينهم، والقراءة على قبورهم، وطلبَ منه أن يأتي إليه. جاء الرجل مسرعاً، فلعله ظن أن الرزقة جاءته. والرزقة عند مغسّل الأموات تعني وجود ميت يحتاج رعايته مقابل المال. قال أبو سمير:
- أريد منك خدمة، ليس لها علاقة بشغلك، ولكنها مدفوعة الأجر. لا تقلق.
شقرق أبو شعيب، وقال: مئة خدمة لشواربك يا أبو سمير. تفضل.
قدم أبو سمير لأبو شعيب كأساً من الشاي، وسيجارة، وقال له: اشرب. صحتين. القصة باختصار أنني سأرسلك بوساطة إلى الحاج عبدو، كبير عائلة "أبو صدفة".
دهش أبو شعيب. وقال: نعم؟
قال: اشرب الشاي وأنا أفهمك. المسألة بسيطة. لا تقلق.
(في حكايتنا الرمضانية القادمة سنعرف كيف قفلت حكاية أبو سمير، وانتهت باللجوء إلى مدينة إدلب).