حط في الخرج يا أستاذ

04 سبتمبر 2019
+ الخط -
كنا، في سهرة الإمتاع والمؤانسة الأخيرة، على وشك أن نترك موضوع "الزمن" وننتقل إلى موضوع آخر. ولكن، كان الأستاذ كمال عَمَّ يعلّقْ على أغنية أم كلثوم "إنته عمري"، بعدين ضرب مثال بمقطع من أغنية عودت عيني على رؤياك، اللي بتقول فيه: إن مر يوم من غير رؤياك ما ينحسبشِ من عمري وقال إنه هادا تنويع على قولها (ابتديت دلوقتِ بس أحب عمري).. وبوقتها رفع أبو الجود نصف شفته إلى الأعلى وقال له: حط في الخرج يا أستاذ!

كمال يعرف أن أبا الجود لا يلقي كلامه اعتباطاً. فقال له:
- غريب أمرك يا أبو الجود. أنا كنت عم إحكي عن أهمية الزمن، ووَضَّحْتْ لكم كيف الرجل بيحس بأهمية الزمن لما بيحب امرأة، والمرأة بيصير عندها نفس الإحساس لما بتوقع في غرام رجل، وإنته عم ترد علي بطريقة التطنيش واللامبالاة وبتقلي (حط في الخرج)؟

قال أبو الجود: بظن معي حق بهالتطنيش يا أستاذ كمال. أنا حكيتْ لكم مرة كيف إني حقدتْ على جدي لأنه خَلَّى أمي تتزوج، وقلت لكم إنه لو ما أمي تزوجت ما كنت أنا جيتْ ع الدنيا ولا كنتْ تبهدلتْ كل هالبهدلة. يعني وجودْ العمرْ بالنسبة إلي متل عدم وجودُه.. شغلة فاضية، وعلى قولة المتل (حط في الخرج)..


وفجأة انفلت أبو الجود بالضحك وقال: شايفين هادا أبو جهاد اللي قاعد على طرف الصوفاية ومْدَلِّي راسُه لتحت متل المحكومين بالإعدام؟

انتبه أبو جهاد وقال: وصلت لعندي يا أبو الجود الواطي؟ الله تعالى يقطع عمرك.

قال أبو الجود: إذا الله سبحانه وتعالى قطع عمري، أو خلاه ماشي، أنا ما كتير بتفرق معي. يعني (حط في الخرج). وترى إنته من نفس الفصيلة تبعي، منشان هيك كنت بدي إحكي عنك للشباب، وللأستاذ كمال حتى ما يزعل مني.

قال كمال: بصراحة يا شباب؟ كلام أبو الجود متل العسلْ لما بينقّطْ فوقْ القشطة.

وقال لأبي الجود: تفضل إحكي.

قال أبو الجود: لما كنا في الصف التالت الابتدائي كنا أنا و"محمد فاتح" (اللي صار إسمه بعدين أبو جهاد) زملاءْ. رحت أنا في يوم من الأيام عَ المدرسة، ودخلت ع الصف، لقيت كل رفقاتي موجودين ما عدا محمد فاتح. بصراحة انشغل بالي، قمت وقفتْ ومسكتْ حالي من قدام وقلت له للأستاذ إني مضطر إطلعْ ع المراحيض حتى إتبولْ. الأستاذ قال لي: روح اطلَعْ، الله يقطع عمرك. طلعت من الصف وركضت باتجاه العمود اللي بآخر المدرسة، تعربشت عليه لفوقْ، ونزلت عَ الزقاق.. وركضت متل كلب الصيد على بيت محمد فاتح، دقيت الباب، طلع أخوه، سألته: وين محمد فاتح؟ قال لي استنى. وقفت صرت إستنى وبعد شوي طلع محمد فاتح (يعني أبو جهاد) عم يسحل برجليه متل الزلحفة، قلت له: خير محمد؟ أيش بك؟ فقال لي: أكلت قتلة من أبوي.

قال أبو محمد مغموراً بالضحك والاستطراف: صحيح يا أبو جهاد؟.. هاي القصة صارت؟

قال أبو جهاد بشيء من الخجل: صارتْ. بس أنا ما رح إحكيها. طالما هادا المنحوس أبو الجود بلش فيها خلي هوي يكملها.

قال أبو الجود: قبل هاي الحادثة بتلات سنين، لما دخل محمد فاتح (أبو جهاد) عَ الصف الأول، طلب من أبوه حق خمس ليرات تمن دفاتر، بوقتها أبو صَفَّرْ صَفرة طويلة وقال له: خمس ليرات تمن دفاتر؟ شايفني آغا، وَلَّا بيك، وَلَّا باشا؟ وبعدما تجادلوا شي ساعة ساعتين، وتدخلت أم محمد فاتح، وعمته، وعمه، وخاله، والجيران، اتفقوا على أنه أبوه يشتري له دفتر واحد كبير بليرة ونصف، واشترط عليه إنه يبقى الدفتر معه من الأول لوقت ما ينتهي من المرحلة الابتدائية.. يعني ست سنين، لكن هادا محمد فاتح كان مبذر وما بيعرف قيمة المصاري، منشان هيك استهلكْ الدفتر خلال تلات سنين، ومو بس هيك، كان شجاع لدرجة أنه دخل لعند أبوه وقال له: الدفتر ما عاد فيه ولا ورقة بيضا، كله تْعَبّى كتابةْ مواضيعْ إنشا ومسائلْ حسابْ ورسمات أشجار وبلابلْ.. وقبلما يكمل كلامه وقف أبوه وسحب القشاط تبع البنطرون وصار يجلده.

سكت أبو الجود لحظة وقال: أنا حكيتْ لكم يوم أخدوني على فرع الأمن العسكري وجلدوني بسبب تَشَابُهْ الأسماءْ بيني وبين الصيدلي عبد الجواد محمد المحمود. بظن أبوه لمحمد فاتح ضربه يوميتها أكتر من الضرب اللي ضربوني ياه في الأمن العسكري! يا سيدي وما انحلت القصة لوقت ما تنازلْ محمد فاتح عن الدفترْ، وحلف يمين لأبوه على إنه إذا بيحب يبطل من المدرسة نهائياً مستعد يبطلْ. وبالفعل بَطَّلْ، وحَرَّم طول حياته إنه يقرا أو يكتب كلمة وحدة. والحمد لله وَفَّى بعهده. وليكه هلق قدامك ما بيفهم شي بنوب.

قلت محاولاً إنها الجدل: والله إنه أبو الجود ذكي. والدليل إنه الأستاذ كمال كان عم يحكي عن أهمية الزمن بالنسبة للناس، وخاصة في الغناء والفن الراقي، وأحب أبو الجود يقول لك إنه في ناس راحت من أعمارهم سنين وأشهر وأيام! وبالتالي هاي المقارنة مو بمحلها، وإنه لازم الواحد يطنش ويحط في الخرج، حتى يقدر يتحمل خسارة العمر كله.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...