حسيب كيالي وإدلب والنحت اللغوي
ذكرت لكم، في التدوينة السابقة، أن Frau Badla، الاسم الذي تُعرف به زوجتي هنا في ألمانيا، تكون عائدة من زيارة طبيب ما، ويُوَجَّهُ إليها ذلك السؤال (الذي سماه صديقُنا الراحل محمد نور قَطّيع السؤالَ الذهبي): "أيش صار معك؟"، فتباشر بسرد ما حصل معها، بالتفصيل، مبتدئة من قبل أن تغادر المنزل، "شربنا قهوة، وحطيت فطور لمحمد"، ثم تصف ما قد تتعرض له من تأخير في محطة القطار، وتستمر بالشرح حتى تصل إلى داخل العيادة، برفقة حفيدتنا التي تتولى الترجمة، وتردد الأسئلة التي وجهها إليها الطبيب، وبماذا ردت عليه، وما جرى معها في طريق العودة، وتضيف أنها، مرت أمام سوبرماركت "البركات"، فوجدت عنده كوسايات (شي بيشهي)، فاشترت ما يكفي لطبخة محشي نأكل منها، كلانا، يومين، مع شوية فليفلة خضرا، وبصل أخضر، لها، لأن زوجها، حضرتي، herr Badla، مثل صديقه الراحل عبد القادر عبدللي، لا يأكل بصلاً..
ومن طريف ما روته لابنتها ريتا، أن طبيب العينية، بعدما تأكد من وجود (ماء أبيض)، في عينيها الاثنتين، سألها:
- أنت تبصرين بهما؟
قالت: نعم.
قال: علمياً، وبحسب ما ظهر معي بالفحص، المفروض أنك لا تبصرين سوى خيالات!
لغتنا، نحن أهل إدلب، فيها الكثير من النحت والاشتقاق
أنا أفسر ولوع فراو بدلة بهذه التفاصيل، وإعادتها بحذافيرها أمام كل مَن يوجه إليها السؤال الذهبي، بأنها تعاني من ثقل الوقت هنا، وقلة الأصدقاء والصديقات، وهي لا تجد ما تشغل نفسها به سوى التلفون، لذلك تدخل في مكالمات واتساب (ملحمية)، وأنا، كنت أشاهدُها داخلة في مكالمة ملحمية، وأراقبها وهي تغير مكان وجودها، خلال كل مكالمة، ثلاث أو أربع مرات، تمشي، أو تجلس، أو تستلقي، وتنقل الجوال من أذن إلى أخرى، فأتذكر تلك النكتة التي تروى عن رجل مولع بالمكالمات الملحمية، وذات مرة جاءه اتصال، فتحدث ربع ساعة فقط، وأغلق الخط، فلما سأله أهلوه عن سر إنهاء المكالمة بسرعة، قال:
- النمرة غلط!
وأما أنا، فكما تعلمون، كاتب (بلا قافية)، وعندي مشاريع كتابة، وقناة يوتيوب، وحساب على تيك توك، ووقتي، كما يقولون في الكلام الدارج "محكرك"، ولذلك فإنني، حينما أكون عائداً من زيارة طبيب، ويتصل بي مرداس من السعودية، ثم ريتا وفرح من ألمانيا، وكل منهم يسألني (أيش صار معك يَبُو؟) أرد عليهم، باختصار شديد، على طريقة الرجل الذي حاولوا إلهاءه عن الطعام، وطلبوا منه أن يروي لهم حكاية النبي يوسف، فقال: ضاع وعثروا عليه! وباشر الطعام! وبسبب وقتي "المحكرك"، كنت أعجب كثيراً بطريقة طبيبة أسرتنا، وهي ذات أصول مصرية، عندما تبلغني بنتائج تحاليل الدم الدورية، فتقول:
- تحاليلك زي الفُلّ!
وبعدها، كلما سألني أحد من أبنائي عن تحاليلي، أو عن وضعي الصحي، أقول له: زي الفل. وإذا كنت عند طبيب القلب، وسألوني أيش صار معك، أخبرهم أنني سمعته يقول لابني أمين: Ales gut، يعني كل شي تمام، وأضيف:
- اطمئنوا، أنا مو "دَخّيل".
السائقون الميكانيكيون يقولون عن المريض الميؤوس من شفائه: مسَلِّم اللوحات، أو حاصل على الـ (لا مانع)
لكي تعرفوا، أيها الأعزاء، معنى كلمة "دَخّيل"، أحيطكم علماً بأن لغتنا، نحن أهل إدلب، فيها الكثير من النحت، والاشتقاق. كان أستاذنا الأديب الساخر حسيب كيالي شجاعاً إلى حد أنه كان يستخدم المنحوتات الإدلبية اللغوية في قصصه الأدبية، وهو يعلم أن قراء العربية الموجودين في كل مكان قد لا يفهمون اللهجة الشامية البيضاء الدارجة، فكيف سيفهمون الإدلبية المنحوتة؟
المهم أنه، أعني الأستاذ حسيب، كان يستخدم فعل "توكل" بمعنى مات، ويستخدم، أحياناً، عبارات موغلة في المحلية.. ففي سنة 1951، كتب قصة تحمل عنوان "مجاهدون من بلدنا"، نُشرت في المجموعة القصصية المشتركة "درب إلى القمة"، التي أصدرتها رابطة الكتاب السوريين، وفيها يوجه أحد المجاهدين الذين ذهبوا للدفاع عن فلسطين سنة 1948، إلى زميله سؤالاً:
- فيها شي إذا الواحد قَوَّى بسطارَه بشوية مسامير من تلك التي يحدو بها ابنُ بلدنا أبو برهو البيطار البغالَ والكُدْش؟
سأله زميله عن سبب هذه التقوية، فقال:
- سأضرب به الضابط الصهيوني الذي سنشتبك مع جماعته صباح الغد!
وفي إحدى قصص الأستاذ حسيب، استخدم منحوتة لغوية إدلبية غريبة، هي (كانتْ لُهْ)... وأصلها أنك قد تصادف شخصاً إدلبياً يحكي لك حادثة، يقول: كان فلان الفلاني مريضاً، أخذوه إلى عيادة الحكيم، وعندما عاد إلى الدار، كانت صحته مستقرة، ولكنه، في الليل، الْتَاشْ (أي: نكست صحته)، وصاح لأولاده، وأراد أن يقول لهم شيئاً، أو سراً، فالتموا حوله، وهو رفع يده إلى الأعلى، وكور فمه لكي يتكلم.. وهذه (كانت له)! بمعنى أن هذه آخر حركة كانتْ لَهُ.
وأهل إدلب لا يقتصرون في منحوتاتهم على فعل توكل، بمعنى مات، بل ينحتون منها صيغة أخرى، هي: اتَّكَل.. والشبان الذين يحلمون بالحصول على فيزا من دولة أجنبية، يقولون عن الشخص المرشح للموت (مفيّز) أي حاصل على فيزا المغادرة، والسائقون الميكانيكيون يقولون عن المريض الميؤوس من شفائه: مسَلِّم اللوحات، أو حاصل على الـ (لا مانع)، وأحياناً يسأل أحدهم الآخر عن شخص مسن ومريض، فإذا كان قد مات يقول له: دَخَل. وتعني أنه دخل في رحمة الله، وإذا كان مرشحاً للموت بقوة، يقال: دَخّيل... وهكذا.
(وللحديث شجون أخرى)