بطولات خيرو الياهو
حكيت لصديقي "أبو صالح"، خلال اتصال سابق، عن شخصية الرفيق عبدو الياهو، الذي اكتسب هذا اللقبَ بطريقة غريبة، إذ سموه في البداية عبدو النتن، ثم قالوا: عبدو الـ نتن ياهو، ثم عبدو الياهو. وقلت إنه كان يأمل بأن يصبح مديراً لـ "ثانوية المتنبي" التي كان لها شأن كبير في تخريج المتعلمين في إدلب الذين يصبحون، في ما بعد، من حملة الشهادات العليا.
جاء عبدو الياهو إلى مكتب شقيقه الرفيق خيرو، في فرع الحزب، ووضع أمامه وثيقة التخرج من كلية الجغرافيا، وقرار قبوله مدرساً لمادة الجغرافيا في ملاك مديرية التربية بإدلب، وقال له:
- صارت الكرة في ملعبك يا خاي (أخي)، هيا اعزلْ مدير ثانوية المتنبي، ووجه اقتراحاً إلى مدير التربية لكي يعينني مكانه.
ضحك خيرو الذي انتقل إليه لقب أخيه فصار يعرف باسم خيرو الياهو، وسأل أخاه:
- هل تريد أن تمص إصبعك (أي: تستفيد مادياً) من وراء هذه الوظيفة، أم تريد الحصول عليها لكي تساهم بتطوير العِلم والمعرفة في هذا البلد الصامد المعطاء؟
- بل أريد أن أمص أصابعي كلها، وإن شاء الله التعليم يشيع، ويغور في ستين داهية.
- وما هو نوع مَصّ الأصابع الذي تبتغيه من إدارة المدرسة وتعليم العجيان يا غبي؟ هل ستسرق علبة طباشير؟ أم مقعداً خشبياً يتسع لثلاثة طلاب؟ أم جرساً قديماً يُقرع إيذاناً بانصراف الطلاب؟
فتح عبدو الياهو فمه، وأرخى أشياءه من فرط الدهشة، وقال:
- ماذا أفعل إذن؟ هل تريد أن ألتحق بوظيفة معلم الجغرافيا في ثانوية أبو الضهور بريف سراقب الشرقي؟ أم تريد أن تصدر قراراً بتفريغي في أحد مكاتب اتحاد الفلاحين، لأمضي بقية حياتي في بيع أكياس الخيش وبذار الشعير للمزارعين؟
- بل سأعينك بصفة مدير عام شركة "المنوال للغزل والمحالج المؤممة"، وسنستفيد أنا وأنت، بإذن الله، ونمص أصابعنا.
الحقيقة أن كلام خيرو لا يمكن أن يسبب صدمة لأحد، إذ ياما عينوا أناساً بلهاء ومساطيل ونتنين في مراكز حساسة، فتسببوا بخسائر كبيرة لاقتصاد البلاد. المهم؛ كان الرفيق خيرو الياهو داهيةَ عصره في مجال التكتلات، والتحالفات، والحفر، ونصب الكمائن، ووضع العصي في العجلات. عندما يقع تحت يده أحد خصومه فإنه لا يرحمه، ولا يهادنه. وكان، قبل هذا، منزعجاً من الأستاذ فؤاد، مدير شركة المنوال للغزل والمحالج المؤممة، وعندما جاءه عبدو طالباً منه وظيفة محترمة، قال لنفسه: جاءت والله جاء بها. والله لأجعل فؤاداً يندم على مخاصمتي، وسأعين أخي عبدو مكانه.
قال عبدو: أي خاي خيرو. ماذا قررت؟
- امسح نظارتيك جيداً، يا خاي يا عبدو، وانظر إليَّ بتركيز. إن تعيينك مديراً عاماً لشركة المنوال، الآن، في الحال، غير ممكن، ولذلك يجب عليك أن تلتحق بوظيفتك في أبو الضهور، وتصبر، وتمشي معي خطوة خطوة، وتفعل ما أطلبه منك بحذافيره. وإذا لم تكن مستعداً لهذا الأمر بإمكانك أن تقف على قدميك الآن، وتجري حركة (وراء دُر)، وتريني عرض كتفيك، ثم تخرج من الباب بطريقة البَرم، مثل الغازول.
كان مدير الشركة، الأستاذ فؤاد، إنساناً طيباً، مخلصاً، يتعامل مع الموظفين في الشركة، ومع الزبائن، كما لو أنهم أهله. وهو لم يكن بعثياً في الأصل، ولم يكن يتعاطى السياسة، لذلك كان مصنفاً في سجلات فروع المخابرات تحت بند (حيادي إيجابي)، وفي الأيام الأولى لإحداث شركة المنوال، عينوا لها مديراً مطعماً على بالوعة، اسمه "جدوع طاء"، سرق من ميزانية الشركة، خلال ستة الأشهر الأولى، أموالاً لا يمكن إحصاؤها، ولكي يتمكن من السرقة عمد إلى إحداث حالة من الفوضى في القيود والسجلات وتعيين موظفين مرتبطين به في المراكز الحساسة، حتى كادت الشركة أن تقع على الأرض، وعندما علم أن بعثة من الهيئة العامة للرقابة والتفتيش ستزوره في وقت قريب، جمع الأموال التي سرقها، وهرب بها. ووقتها وقعت القيادة (الحكيمة) في مأزق، وكانوا على وشك أن يأتوا بواحد أسوأ من جدوع، ولكن المحافظ تدخل، وقال للفرع: دعوا هذا الأمر لي. وبعد اجتماعات مع المكتب التنفيذي وإجراء اتصالات ومشاورات من ناس من المدينة، اقترح عليه أحدهم تسليم الشركة للأستاذ فؤاد، المعروف بذكائه، وعقله الإداري، ونظافة يده.. فاستدعاه المحافظ، وطلب منه أن يدير الشركة، فوافق.. ولكن، هنا، اعترضتهم مشكلة. ففؤاد، كما ذكرت لك، ليس بعثياً.
قال لي أبو صالح: ولكنهم اختاروه. فماذا يهمهم إن كان بعثياً أم حيادياً؟
- لا بد أنك، يا أبو صالح، تعرف حكاية الحَجَر الذي وضعه أحدُ الناس في منتصف الشارع لكي ينبه المارة من وجود حفرة، إذا داسوا فيها دون انتباه قد يموتون أو تتعرض أجسامهم للكسور والرضوض.. البلدية عينت للحجر مَن يحرسه، براتب شهري، وهذا الرجل تذمر من كونه لا يستطيع أن يحرس الحجر 24 ساعة، فعينوا له اثنين آخرين، وصاروا يرسلون لهم، أثناء مناوبتهم على حراسة الحجر، طعاماً وشراباً، وأعطوهم تعويضاً عائلياً وحوافز إنتاجية.. كل هذا ولم يخطر لأحد أن الحل يكون بردم الحفرة والتزفيت فوقها، وإبعاد الحجر! ما قصدته أنه كان حرياً بهم أن يلغوا سيطرة حزب البعث على المجتمع، والإقلاع عن فكرة أنه لا يجوز تعيين مدير غير بعثي، ولكنهم تصرفوا على غرار الحفرة التي في الشارع.. أخذوا الأستاذ فؤاد إلى فرع الحزب، وقدموا له استمارة انتساب لحزب البعث، وبعدما وقع عليها أصدروا اقتراحاً بتعيينه مديراً للشركة المذكورة. فاستلم إدارتها بالفعل، وبدأت الشركة تتعافى على يديه... دواليك حتى بدأت قصة عبدو الياهو.
(للحكاية تتمة)