النتائج الكارثية للاحتيال

13 نوفمبر 2019
+ الخط -
أجمع الحاضرون في جلسات الإمتاع والمؤانسة على أن الحكايات التي رواها العم "أبو محمد" عن فصول الاحتيال التي تعرضَ لها من قبل التاجر جامع الأموال في مدينة حلب كانت من أجمل الحكايات وأحلاها خلال جلساتنا.

الأستاذ كمال طلب منه أن يُجري بحثاً في ذاكرته عن حكاية ظريفة من هذا القبيل، فقال أبو محمد:
- على راسي وعيني. بدي أقولْ إنه بهديكْ الأيامْ صارتْ قصة ظريفة، لكنْ بنفس الوقت كانت مؤلمة، وأنا لولا يكون عندي شوية عَقْلْ وحكمة كانت صارتْ في البلدْ مشكلة كبيرة، ويمكن يجري من ورا عالمشكلة دَمْ. مع إنه الشغلة كانت في البداية مزح بمزح.

قال أبو ماهر: يا ساتر! لهالدرجة؟ طيب شلون؟

قال أبو محمد: قصة الـ200 ألف ليرة اللي أكلها عليّ النصابْ الحلبي الحاج عبد الغني صارت مع الأيامْ متلْ سيرة عنتر والزير سالم أبو ليلى المهلهلْ، كلما خلص منها فصل بيبدأ فصل جديد.. الرجّالْ الأهبلْ اللي حكيت لكم عنه، رجل مولعْ بالمَزْحْ والأنكلة، منشان هيك عملني تسلاية، كل يوم كان يطلعْ لي بنغمة. في البداية كان يجي عَ المقهى، ومن دون أي مناسبة يجيب سيرة النصاب الحاج عبد الغني اللي هرب مع السكرتيرة، لحتى يخليني أعصب ويضحكوا علي الزباين.


قال أبو الجود: يعني كان يقعد معك ويذكرك فيه؟

قال أبو محمد: بالأول كان يقعد معي ويأنكل علي، بعدين أنا طردته، وهددته بالضرب. فصار يشتغل بطريقة تانية: مثلاً، بيكونوا زباين القهوة مشغولين بلعب الورق والنرد وتدخين التنباك بالأراكيل، بيقولْ: سمعت لكم سمعة يا شباب، عم يقولوا الناس إنه الحاج عبد الغني قبلْ ما يطلعْ من حلب كتبْ كتابه ع السكرتيرة، منشانْ الحلال والحرام. يا خيو هالزلمة صحيحْ نَصَّابْ وبياكلْ عَ الناسْ مصاري، بس بيخاف الله!

قال كمال: وأنا بدي أقولْ إنه الرجل اللي عم تحكي لنا عنه صحيح أهبلْ بس لَمَّاحْ. عن جد هادا سؤال مهم، إنه ليش كل النصابين بيهتموا بإبراز ْجانبْ التُّقى والوَرَعْ؟ وإذا بيسمح لي العم أبو محمد، هلق تذكرتْ فَصْلْ ظريف من رواية عزيز نسين "الطريق الوحيد". في واحد في الرواية ادعى أنه هوي من أولياء الله، وصارْ ينصب على الناس الأوادم ويضحك عليهم، ولما بيجتمعْ مع الآغا الإقطاعي وبعض الضيوف المقربين، بيحط الآغا لضيوفه طعامْ ومازَوَاتْ ومشروباتْ كحولية، هادا النصاب اللي عامل حاله (وَلِي صالح) بيمتنع عن الشرب، هون الآغا بيضحك وبيقول له: تضرب في شكلك، بدك تضحك علينا كمان؟ اشرابْ اشرابْ. وطبعاً هوي بيشرب متلما بيقول له الآغا، لأنه هوي بالأصل نصاب ومو ولي متلما بيدّعي.

قال أبو محمد: مرة من المراتْ، بعدما مرّ أكتر من سنة على قصة الـ200 ألف ليرة تبعي، أنا كنت قاعدْ في القهوة ومستغرق بلعب "الكونكان"، سمعت تنين عم يحكوا مع بعضهم، واحد عم يقول (ولد)، وواحد عم يقول (بنت)، وبيردّْ عليه الأولاني وبيأكد إنه المولود بنت، وإنها كتير جميلة متل أمها. أنا ما كتير اهتميت بالموضوع، لوقت ما الرجل الأهبل دق بإيده ع الطاولة وقال بصوت مرتفع:
- قسماً بالله جابت صبي، ومن كتر ما بتحبّْ جوزها سمته عبد الغني على إسمه. يا خيو هالسكرتيرات أصيلات، وبيفهموا بالأصولْ. هون أنا ما حسنت أمسك أعصابي، شلتْ الملقط تبع نارة الأركيلة وضربته فيه، وهوي بَعَّدْ حالُه من طريق الملقط، ونزل على وجه شاب من البلد، وعلى الفور الشاب صاح (آخ) ونَفَرْ الدَمّْ من وجهه.

ساد الوجوم على وجوهنا، وبقيت أبصارنا متعلقة بوجه "أبو محمد" الذي قال:
- أنا بظنّْ إنه إذا أيّْ شخصين في أيَّا بلد في العالم صارتْ بيناتهم مشكلة، بتبقى المشكلة محصورة بين هالشخصين، وإذا التنين راحوا على أقرب مخفرْ، أو إذا الشرطة إجت لمكان المشكلة، بتنحلّْ القصة بأسرع ما يمكن. إلا في بلدنا، بتلاقي كل واحد منا مربوطْ بعائلتُه، وإذا هوي أرادْ، أو ما أرادْ، أفراد عائلته بدهم يتدخلوا لصَالْحُه.. واللي صار في القهوة إنه الرجل الأهبل هَرَبْ، وفي ناس ركضوا باتجاه الشاب اللي أصيبْ، وشالوه وأخدوه على عيادة الدكتور حميد اللي جنب القهوة منشان يسعفوه، وأنا أجا واحد من الناس المصلحين وحاول يطالعني برات القهوة حتى ما نشتبكْ أنا وأقاربي الموجودين في المقهى مع أقاربْ الشخص اللي انصاب، وكانوا بحدودْ ست أشخاص أو سبعة، والحقيقة إنه الطرفين استنفروا، وصاروا جاهزين للاشتباك والقتل والضرب في أي لحظة.

قال أبو زاهر: أي وأيش صار بعدين؟

قال أبو محمد: أنا وقفتْ، ورفعت إيدي لفوق، وقلت اسمعوني يا شباب، أنا مسؤول عن اللي صارْ، وفلان اللي تصاوب هوي صديقنا وحبيبنا وعيلته صديقة عيلتنا واللي إله حق بهاي القصة حقه عندي. والتفتت لجماعتي وقلت لهم: كل واحد يقعد في مكانه، واللي منكم بيحب يوقف معي في هالمشكلة بيمشي معي لنبوس راس أصدقاءنا، وأنا هلق طالع لعند الدكتور، ومستعد آخد المصاب على أي مستشفى وعلى حسابي.

وقلت لأولاد عمه: في شغلة وحدة بدي إياكم تكونوا متأكدين منها، إني أنا أصبته لابن عمكم بالغلط، ومع ذلك أنا بتحملْ المسؤولية للآخر.

تتمة القصة إني الجرح اللي أصاب الشاب كان خارجي وبسيط، لكن لولا أنا تصرفت هيك كان ممكن تصير مشاجرة عائلية ويروح فيها قتلى وجرحى ومكسرين ومرضوضين! وكلها من ورا النصب والاحتيال.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...