المكتوبجي وانخلي يا هلالة

13 مايو 2018
+ الخط -
في أواخر القرن العشرين، ومع اكتشاف الإنترنت والبريد الإلكتروني، تعرض رقباء الصحف والرسائل، الذين عُرفوا باسم "المكتوبجية"، إلى كارثة كبيرة، جعلت الذي يسوى والذي ما يسواش يضحك عليهم ويتكهكه، فبعد أن كانوا يشوون الأخضرين، ويحصون على الناس أنفاسَهم، ويفعلون بالمواطن الأفاعيل، قُذفوا جانباً، وكأنهم "الحتمل" الذي ينتج عن الحصرم بعد عصره.

كانت تصل إلى المواطن الغلبان الذي أوقعه قدرُه الأحمق تحت وطأة نظام الأسد وأجهزته الرقابية رسالةٌ من صديقه الذي يعيش في محافظة سورية أخرى، أو في دولة أخرى، ممزقة، ومشوهة، ومتأخرة عن موعد وصولها أكثر من عشرين يوماً... وإمعاناً من المكتوبجي الحقير في الاستهتار بكرامة هذا المواطن، وكرامة مرسل الرسالة، فقد كانت تُطبع على الرسالة المشوهة عبارة (كليشيه) تنص على أن الرسالة وردت هكذا من المصدر! وكانت هذه الكليشة تُكتب حتى على بريد الدول التي تحترم رسائل مواطنيها ولا تفتح رسائلهم إلا في حالات نادرة لها علاقة بالأمن القومي.


كان ثمة أديب سوري موظف في وزارة الإعلام السورية، عُهدت إليه مهمة قص صفحات الصحف والمجلات التي لا يرضى عنها المكتوبجي السوري، وكان صديقنا الأديب الراحل تاج الدين الموسى، بوصفه قروياً عتيداً، يستخدم كلمة (يشق) بدلاً من (يقص)، لذلك كان يتساءل كلما ذكر أمامه هذا الأديب الشاعر:
- مو هادا اللي بيشق الجرايد؟!

بعد اكتشاف الإنترنت، والخازوق المبشم الذي تعرض له المكتوبجية، والفرح العارم الذي عاشه الناسُ بخوزقتهم، خرجوا من حياتنا ردحاً من الزمن، حتى ظننا أنهم انقرضوا مثل الديناصورات، ولكنهم سرعان ما عادوا بصيغة جديدة وهي صيغة حجب المواقع الإلكترونية... يعني، في السابق كانوا يشقون من المجلة صفحة أو صفحتين، وأما الآن فأصبحوا يحذفون الموقع الذي يصدر تلك الصحيفة أو المجلة بكامله.

وسرعان ما اكتشف أهل العلم، الغربيون بالطبع، غواصاً إلكترونياً شبحاً اسمه (ghostclick) يدخل المواطن بموجبه، دون عناء، إلى المواقع التي حجبها المكتوبجية العرب، ويفك تشفيرها، ويتصفحها، وُيراسلها، فتصبح هذه المواقع محجوبة عن أعين المكتوبجية فقط!

يعني، باختصار: عندما تكون معركة النظام المستبد مع الشعب فإنه منتصر حكماً، وأما حينما يواجه تكنولوجيا البلاد الاستعمارية التي يزعم أنه يواجهها، فهو مندحر حكماً..
وفي الختام لا يسعنا إلا أن نقول: انخلي يا هلالة.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...