02 سبتمبر 2024
المضحك المبكي (5)
افتتح الأستاذ كمال جلسة الإمتاع والمؤانسة في منزل العم "أبو محمد" بقوله إن أسوأ طبقتين في العالم هما: طبقةُ المخابرات السورية، وطبقة الحثالات الأوباشية من السجانين الذين يتسابقون لإرضاء ضباط الأمن على حساب المعتقلين العُزَّل المساكين الذين لا جريمة لهم سوى أنهم يمتلكون رأياً مختلفاً عن رأي الجوقة.
وقال: خلوني أوضّحْ الفكرة. بتتذكروا الحديثْ اللي حكيناهْ من كَمْ يومْ عن رحلة المعتقلْ المهندسْ "راشد الصطوف" من فرعْ فلسطينْ بدمشق لسجنْ تدمرْ مع مجموعة من المعتقلين؟ أنا قصدي أقولْ إنه هدولْ المعتقلينْ اللي كانوا حاشرينْهم ضمنْ واحدْ من باصاتْ الـ"هوبْ هوبْ" العتيقة هنّي عبارة عن طبقة عِلْمية راقية في سورية (إنتلجنسيا)، والله لو كانوا عايشين في دولة محترمة، وقررتْ هالدولة المحترمة تشكلْ حكومة من التكنوقراطْ كانت بتنتقي الوزراء ورئيس الوزراء من هالشباب الموجودين ضمن هالباصْ، لأنُّه واحدْ منهم مهندسْ، والتاني طبيبْ، والتالتْ مدرسْ رياضياتْ إكتوارية، والرابعْ مختصّْ بالفسلفة، والخامس أديبْ، والسادس فنانْ.. إلى آخره. وأما السجانين فأكيدْ هني من الطبقة الزبلية، ولو كانوا بيعرفوا قيمة هالمساجينْ كانوا تعاملوا معهمْ بلطفْ، وبإشفاقْ، وكان كلّْ واحدْ منهم قعدْ جنبْ واحدْ منهم وقالْ لُه: بترجاكْ لا تواخذني يا أستاذْ، ولا تزعلْ مني، ترى أنا مجبورْ أكونْ سجانْ عليكم، وأرافقكم لحتى أوصلكُم لسجنْ تدمرْ.. الأوامرْ هيك.
قال أبو زاهر: طالما إنكم عَمْ تحكوا عن المضحك والمبكي، لازم تسجلوا كلامْ الأستاذْ كمال في خانة "المضحك".. يا خيو، لو كانتْ سويسرا – فَرَضَاً - بتعتقلْ المواطنينْ تَبَعْهَا، وبتبعتْهُم على (سجن تَدْمُر السويسري)، كان ممكنْ السجانين يتعاملوا مع المعتقلينْ بنعومة وجنتلمانية.. إنته يا أستاذ كمالْ بدكْ كلابْ حافييظ الأسدْ يكونوا راقين ومحترمين؟ أي شو إنته عم تحلم؟
قال كمال: المهم. بيحكي راشدْ إنه قبلما يطالعوهم عالباصْ أجا واحدْ عسكري من هالحثالة وحطّْ الطماشات على عيونهم، وعَلَّقْ كلبشة معدنية بإيده وإيدْ واحدْ رفيقه في الحزبْ اسمُه "جيم"، وكانت الكلبشة ضيقة حتى شَعَرْ راشدْ بعد ساعة من إنطلاقْ الرحلة بأنه زندُه تْوَرَّمْ، وتْحَبَّسِتْ فيه الدماءْ. وفي غفلة من السجان التفتْ على رفيقه جيم وقال له: شو رأيك إطلبْ من السَجَّانْ يفكّ الكلبشة اللي رابطينَّا فيها بلكي بترتاحْ إيدي وإيدكْ؟ همس له جيم بأنه (أوعى تقولْ لُه أي شي، مانك شايفْ هالجَوّْ؟). وكان صوتْ هديرْ الباصْ مرتفعْ، وكانواْ السجانين عم يصرخوا وبيغنوا وبيحكوا مع بعضهم بصوت مرتفع متداخلة، ولهالسبب فهمْ راشدْ من رفيقُه جيمْ عكسْ المعنى اللي قالُه، فهمْ إنه ما بيمنعْ تطلبْ من السجانْ هالطلبْ، لأنه الجَوّْ مناسبْ.
فتشجعْ راشدْ ورفعْ الطماشة عن وجهه وقال للسجان: يا أخ، ممكن ترخي لنا هالكلبشة شوي، لإنها عم توجّعْ لنا إيدينا؟ فقال له السجان: تكرم عينك. وشد إيد راشد وإيدْ جيم اللي مربوطين بالكلبشة، وسندها على حافة الكرسي وداسْ عليها برِجْلُه، وبلشوا راشدْ وجيم يصيحوا من شدة الألم بالمقلوبْ!
قال أبو ماهر: أنا بعدما حكيتوا لنا المرة الماضية عن رحلة راشد الصطوف وحكايته مع العسكري اللي سرق منه الحذاء الصيفي (الكلاشْ)، رحتْ قَرِيْتْ الفصلْ كله من كتاب "كوميديا الاستبداد" اللي أعَدُّه صديقْنا أبو المراديس. أكترْ شي عجبني بهالفصلْ حكاية الفلقة اللي بيعملوها للمعتقل في الدولابْ.
قلت: قبلما تكمل حديثك أبو ماهر، المرحوم سامي الجندي بيقولْ في كتابه (البعث) إنه الفلقة في الدولاب هيي اختراعْ بعثي.
قال أبو ماهر: بيقول راشدْ إنه الدولابْ فيه قطعة حبلْ، وحديدة لربط القدمين، وبيوَقِّفْ بجوارْ المعتقل تلات سجانينْ، واحد قدام، وواحد ع اليمين، وواحد عَ اليسار، يعني متل الحدادينْ اللي بيوقفوا حول السندان لترقيقْ قطعة حديدْ محماية، طاق وطيق، وطاخ وطيخ، ويللا يللا.. في واحدْ من هالتلاتة لاحظْ راشد إنه عم يرفعْ إيدُه بالكابلْ وبيهوي فيه على جسمه، بجدية عالية، واجتهادْ.. فبيتذكر مشهد من رواية لعبد الرحمن منيف بيصور فيه السياف عم يرفع إيده بالسيف لأقصى حد ممكن وبيهوي فيه على عنق الضحية. وبيقول: أنا كنت إتأمل في وجه هالسجان وإتْسَاءَلْ عن السبب اللي بيخليه يستبسلْ في إيذائي، يا أخي شو في بيني وبينه؟!
قلت: بما إني أنا اللي تواصلتْ مع راشدْ وأخدتْ منه تفاصيلْ الرحلة، وجهزتها ونشرتها ضمن الكتاب، اسمحوا لي إحكي لكم فصل من السيرة تبعه. متلما بيعرفوا الأصدقاء اللي متقدمين شوي بالعمر؛ الإذاعة السورية كانتْ تقدمْ برنامج غنائي اسمه "من كُلِّ قُطْرٍ أغنية".. وكانوا يسمعونا في هالبرنامج مجموعة أغاني من العراق، ومن السودان، ومن الجزائر والمغرب ولبنان ومصر والخليج.. إلى آخره. هدول المعتقلين الأكابر اللي بيصلحوا يكونوا حكومة تكنوقراط في مرحلة حساسة من تاريخ سورية متلما حكى صديقنا كمال، لما وقفوا أمامْ أحد السجانين منشان يسجل أسماءهم، انتبه السجان إلى أنهم واحد من دمشق وواحد من حلب وواحد من طرطوس وواحد من السلمية وواحد من مصياف وواحد من جسر الشغور، وواحد عربي وواحد كردي وواحد مسيحي وواحد سني وواحد علوي وواحد إسماعيلي وواحد درزي، استغربْ إنه كيف هدول مجتمعين بحزب واحد، وعَبَّرْ عن استغرابه وقال: شو هادا ولا حيواناتْ؟ (مِنْ كُلِّ قُطْرٍ أغنية)؟!!