المجنون فريد ابن أبو خلّو (9)
لا يمكن لإنسان ابْتُلِيَ بولد مسطول وكثير الحركة مثل "فريد" أن يتصرف على نحو صائب في معظم الأحيان.. التصرف المنطقي، السليم، يصح مع الناس الطبيعيين، وأما إذا جُرِّبَ مع المساطيل فلا بد أن يعطي نتائج معكوسة.
التطور الجديد في حياة أسرة "أبو خلو" بدأ مع قدوم موسم قطاف الزيتون الذي يبدأ في مطلع شهر تشرين الثاني (نوفمبر). في هذه الفترة يتوقف أبو خلو وولداه خليل وأحمد عن الشغل في الفلاحة (حراثة الحقول)، وتتوقف بنات أبو خلو عن تنجيد اللحف والخياطة النسائية، ويذهب الجميع للعمل في القطاف، ويتقاضى أبو خلو عن ذلك أجور سبعة عمال، وتكون الغلة في آخر الموسم محرزة.
قالت أم خلو لزوجها: أشو رأيك يا رجال، قبلما نطلع على حواش الزيتون، ناخد فريد ونحطه أمانة عند أختي أم أدهم، والمسا، بعدما نرجع، منمر على أختي، ومناخده، ومنروح ع الدار؟
أبو خلو: لأ. أوعي تفكري هيك. زوج أختك أبو أدهم عقله جوزتين في خُرج (يعني: شبه مجنون)، وإبننا مجنون، إذا فريد بيغلط مع أبو أدهم القصة ما عاد تنحل.
أم خلو: أشو عم تقول يا أبو خليل؟ معقولة فريد يغلط مع زوج خالته؟
أبو خلو (هازئاً): يا ستي فريد غلط مع الأستاذ عبد الله معلم المدرسة لحتى الرجل نتف شعره، وصار يفكر إنه يدشّر التعليم، وفريد جنن المدير علاء اللي ما في أكبر من عقله بكل هالبلد، ومن يومين علق فريد مع أبو حسني ضراب الطوب، تصوري الرجال من جيلي أنا، وإبنك المحترم قال له (بدي أضربك كفين بس هلق ماني فاضي!).. بقى دخيل اللي خلقك، أشو اللي بيمنعه إنه يغلط مع جوز خالته أبو أدهم؟
خليل: خلونا ناخد فريد معنا ع حواش الزيتون، بيبقى تحت نظرنا، وإذا بيلوص هيك أو هيك أنا بعرف شلون أخليه يقعد على حجره.
أبو محمد: يا أبو المراديس بترجاك، نحن أشو بدنا بهالحكي هاد؟ عطينا من الآخر، أشو عمل فريد؟
أبو خليل: نعم الرأي. منجرب، مناخده معنا أول يوم، وإذا عمل مشاكل والله لأخليه محبوس بغرفته وأيش ما جر الفدان يجرّ (قول شعبي يعني: أنه لن يهتم للنتائج).
كانت تلك السنة من سنوات الخير بالنسبة لموسم الزيتون، وكانت أسرة أبو خلو من أكثر الأسر التي تُدعى للعمل مقابل أجر جيد، لأنهم أناس شرفاء، يعملون بجد، ولا يلجأون إلى إضاعة الوقت كما يفعل بعض العمال الزراعيين، وكان صاحب الكَرْم الذي يعملون عنده، "أبو نادر"، من الناس الطيبين المحترمين، وخلال ذلك النهار امتلأت الأعدال بحب الزيتون، وامتلأت النفوس بالبهجة، وفجأة، وبينما الكل منهمكون في جمع الحب من تحت الأشجار إذ سُمع صوت الطبل، التفتوا فوجدوا الطبال أبو قدورة والزمار أبو علي قادمين على عربة يجرها كديش، وسرعان ما ترك أبو خلو وخليل وأحمد وأبو نادر وابنه نادر أعمالهم، واصطفوا وانخرطوا بالدبكة، وبعد قليل جذب أبو نادر زوجته من يدها، لتشاركه الدبكة، وأبو خلو فعل مثله، وخلال دقائق قليلة تحول المكان إلى ما يشبه العرس، والزغاريد بلغت أذن الجوزاء.. بعد مضي ربع ساعة تقريباً، توقف الطبال والزمار عن الضرب على الطبل والترغلة، وصاح أبو علي الزمار: شيباش أبو نادر شيخ شباب البلد، شيباش أبو خلو، شيباش كل الشباب والصبايا..
أبو نادر غمز ابنه نادر بعينه فأسرع إلى كومة الزيتون وملأ منها زنبيلين، أفرغهما في كيس يضعه الطبال والزمار على عربتهما، وكانا ممتنين جداً لهذا الكرم المشهود.. ولكن ما حصل بعد ذلك جعل الأمور تمشي في اتجاه آخر.
بعدما رسمت هذا المشهد أمام الأصدقاء في سهرة الإمتاع والمؤانسة، علق الأستاذ كمال بقوله: الشي اللي حكاه أبو المراديس كويس، لكن أنا شايف إنه بطل سيرتنا فريد تحول لكائن هامشي.
أبو محمد: والله أنا كنت بدي أسأل نفس السؤال، إنه كل هالرقص والدبك والشيباش ما سمعنا صوت فريد. اشتقنا له.
أبو المراديس: كتاب السيناريو بيحكوا عن شي اسمه (المشهد الجسر). يعني أنت بتكون عامل مشهد لفريد، في الدار، وأهله عم يتناقشوا بموضوع اصطحابه معهم، أو تركه عند خالته أم أدهم، وبعدين بتاخد لقطات لعملية القطاف، وكيف خليل عم يراقب فريد لحتى ما يئذي حدا، وفريد عم يتظاهر بأنه إنسان عاقل، وعم يساعدهم بالشغل، بهيك حالة منسمي الطبل والمزمار والدبكة (مشهد جسر)، ومنه مننتقل للمشهد المحوري.
أبو محمد: يا أبو المراديس بترجاك، نحن أشو بدنا بهالحكي هاد؟ عطينا من الآخر، أشو عمل فريد؟
أبو المراديس: طول بالك. بعدما انصرف الطبال والزمار، رجعوا العمال للشغل. يا سيدي عمال الزيتون بيطلعوا على سلّم مثلث (هَرَمي) إله درجات من خشب، اسمه (السَلَّاتة). أبو نادر طلع على أول درجة، والتانية، ولما داس ع الدرجة التالتة، انكسرت الدرجة، ووقع وانسمع صوته ارتطامه بالأرض، وأم نادر ولولت، وركضوا العمال، وجلَّسوه، وحاولوا يسعفوه بطرق بدائية، شربوه مَي من البيدونة، وغسلوا وجهه، وراح ابنه نادر شغل الطريزينة، وشالوه وأخدوه بسرعة باتجاه المستشفى الوطني.
أبو جهاد: لحد هلق ما عرفنا، فريد أيش علاقته بهالقصة؟
أبو المراديس: جاييك بالحكي. يا سيدي العمل في قطاف الزيتون بهداكا اليوم توقف، أو متلما بيقولوا جماعة التصوير التلفزيوني (فركش). وأبو نادر بقي في المستشفى لتاني يوم، لأن كان في عنده كسر متبدل بعظم الفخذ، والطبيب اللي أسعفه جَبَّر الكسر، وحطّ له جبصين، وطلب منه يرتاح في البيت تلات أسابيع. المهم، بالنسبة لأسرة العم أبو خلو.. بعدما رجعوا ع البيت، جهزت أم خلو العشا، وطلبت من الجميع يتفضلوا وياكلوا، وفجأة اندق الباب، ولما أحمد فتح الباب كان نادر جاية وعم يطلب مقابلة أبو خليل. دخل نادر ع الأوضة اللي مخصصها أبو خلو لاستقبال الضيوف.
أبو خلو: أهلين يا عين عمك. بشرني على والدك، ان شالله صار منيح؟
نادر: الحمد لله، بخير. الطبيب جبره وطالعناه ع الدار. هوي بيسلم عليك وكلفني أحكي معك كلمتين.
أبو خلو: تفضل عين عمك.
نادر: يا عمي أبو خليل، نحنا بكرة رح نتابع حواش الزيتون، أمي ما راح تطلع معنا، راح تبقى في الدار منشان تدير بالها ع أبوي. بالنسبة إلكم إذا بتطلعوا معنا هادا الشي بيسرّنا كتير، لكن بشرط، بتطلعوا بدون فريد!
(للقصة تتمة)