الكرم والمضافات وكتابة المكاتيب
أغنى صديقي أبو سعيد الحديث الذي كنت أسرده في سياق "الإمتاع والمؤانسة"، حينما اتصل بي، وصار ينقّب عمّا علق في ذاكرتي من الأيام القديمة.
حكينا عن الصعوبات التي كان يعاني منها المتصل بالهاتف، في أيام الهاتف اليدوي، ومع ذلك، كان الإنسان المقتدر مالياً وحده الذي يمتلك خطّاً هاتفياً في داره، والدليل أنّ بلدة مثل "معرة مصرين"، تعدادُ سكانها كان يزيد عن خمسة آلاف، لم يكن فيها سوى خمسين خطاً، وقلت إنّ مشاكل كثيرة كانت تنشأ عن سوء الاتصال، وهذا كان ينجم عن اعتقاد المتصل بأنّ عامل المقسم داخل على الخط، لكي يتلصّص عليه، ومنها أنّ الأستاذ إبراهيم الحجي، وكانت له طريقة عجيبة في السخرية، قال لعامل المقسم: اخرج عن الخط، ودعني أتكلم مع خالي بشكل واضح، وأعدك أن أتصل بك، بعد انتهاء المكالمة، وأخبرك بما قال لي، وماذا قلت له، وبالتفصيل الممل!
قال أبو سعيد: أظنّ أنّ الحديث عن مشاكل الاتصالات، في أيام الهاتف اليدوي، لا ينتهي. وهذا يبعدنا عن حديثك الأصلي، وهو زيارة المريض العائد من زيارة الطبيب.
نعم. وكنت قد ضربت مثالاً بجارتنا الحاجة أم سليم، وقد تجمعت حولها صويحباتها، وكلّ واحدة منهن أحضرت هدية، عبارة عن صندوق شوكولاته، أو صندوق برشام مغطس بالشوكولاته، وبالمناسبة، وللأمانة، عندما كان يقرع الباب ويفتحه أحدُ أفراد الأسرة، ينظر أولاً إلى وجه القادم، ثمّ إلى يده، وعندما يناوله الهدية، يقول له تلك العبارات التقليدية:
- لماذا أتعبتم أنفسكم، ليس هناك أي داعٍ، حضوركم بحدّ ذاته هدية ومكسب لنا.
المبالغة في الكرم والترحيب بالضيف كانت تناسب العصور السابقة، أما الآن فقد زالت أسبابُها
فيرد الضيف: ولو، ما في شيء من قيمة فلان (المريض)، له علينا الكثير، ونحن لا نستطيع أن نردّ له جمائله.
هذا كله يقال على الرغم من المذمّة التي كانوا يوّجهونها لمن يأتي دون هدية، ويعبرون عنها بالمثل الشعبي القائل: اليد الفاضية مأنشحة (أي: شديدة الاتساخ)!
وقلت لأبو سعيد:
- ولم يكن من اللائق، في تلك الأيام، أن تُتْرك المرأةُ العائدة من عيادة الحكيم وحيدةً بين الصديقات الطيبات اللواتي أحضرن الهدايا وجئن يزرنها على حساب الوقت الذي يخصّصنه عادةً لشؤون بيوتهن، فكان الواجب يقضي بأن يُقَدَّمَ لهن مختلفُ أنواع الضيافة، بالإضافة إلى التأهيل والتسهيل، أي أن يُقال لهن مراراً: أهلا وسهلا ومية السلامة بالصبايا.. وهذه الكلمة الأخيرة، (الصبايا)، كانت تقال للنساء بشكل عام، حتى لو أن بعضُهن كنّ متقدمات في السن، وهناك عبارة كانت تقولها قيمة حَمَّام السوق للنسوة المستحمات وهن من مختلف الأعمار: يا الله يا صبايا الشمس صارتْ على القبة.. أي أنّ الوقت قد حان لإنهاء الاستحمام ثم الانصراف.
- على ذكر التأهيل والتسهيل، أبو مرداس، يمكننا أن نحكي عن ولع أهالي جبل العرب بالترحيب بالضيوف، وقولهم للضيف، بين الحين والآخر: يا حي الله، يا مرحبا، وإذا شرب الضيف يقولون له: هنيَّا وعافية، وإذا كان ابن جبل العرب في الزقاق، ومرّ به أحدُ أصحابه، يدعوه للدخول ومشاركته الطعام، فإذا اعتذر الرجل، متذرعاً بأنّ لديه بعض الأشغال، يقول له: جيرة. وكلمة جيرة تحسم الموضوع، فلا يعود هناك أي مجال للاعتذار، مهما يكن مستعجلاً.
العادات والتقاليد لم تنزل علينا من عالم آخر، بل هي من صنع ظروفنا، وهي تتغيّر
- نعم، يا أبو سعيد، أنا عاشرت أهل جبل العرب كثيراً، ولي بينهم أصدقاء رائعون، ولا بد أن أحكي عنهم، وعن ولعهم بإكرام الضيف في وقت لاحق. مع الإشارة إلى أنني أرى، وهذا رأي شخصي، أنّ المبالغة في الكرم والترحيب بالضيف كانت تناسب العصور السابقة، أما الآن فقد زالت أسبابُها.
- هل يمكنك أن توضح ذلك؟
- طبعاً.
يا سيدي كانت وسائط النقل، في السابق، بدائية، وكذلك أدوات الاتصال الهاتفية، فإذا سافر الإنسان إلى مكان بعيد، لم يكن في مقدوره أن يرجع ليبيت في داره، ولم يكن هناك فنادق، وإن وُجدت فإنّ حالة الفقر كانت تحول دون البشر والنزول فيها، وكانت الطرقات موحشة، وملأى بالوحوش والمخاطر الطبيعية الأخرى، ولذلك فإنّ عادة الكرم تأتي من أنّ الرجل الكريم المضياف نفسه مُعَرَّض لأن يكون ضيفاً على غيره عندما يسافر، وبالتالي فإن الكَرَم الشائع بين الناس يعني أنك أينما ذهبت ستكون معزّزاً مكرّماً، وتأكل وتشرب وتنام على نحو لائق.. وأقول إن هذه الظروف زالت الآن تماماً، فالسيارات الحديثة أصبحت تتيح للمواطن الإدلبي، مثلاً، أن يسافر إلى دمشق (320 كم) صباحاً، ويعود مساء إلى إدلب، وينام في سريره، وعليه أتساءل: ما الذي يجبر مواطناً من السويداء، اليوم، إذا سافر إلى قرية "سهوة بلاطة" مثلاً، على المبيت فيها، طالما أنّ بإمكانه أن يسافر ويعود أكثر من مرّة في اليوم الواحد؟
- كلامك صحيح، ولكنها العادات والتقاليد.
- العادات والتقاليد لم تنزل علينا من عالم آخر، بل هي من صنع ظروفنا، وهي تتغيّر. على سبيل المثال، كان الناس، حتى وقت قريب، يتراسلون بالبريد، وكان كلّ إنسان يشتري ورقاً أو دفتر رسائل، وقلماً ومحبرة ومغلّفات، ويكتب المكاتيب ويرسلها إلى مَن يحب، أو لمن يشتاق، واليوم الرجل القاعد في بلدة معرة مصرين، يستطيع أن يحكي مع ابن خالته في ولاية ميشيغان الأميركية. ويفتحان الكاميرا، ويتسامران حتى الصباح، ومجاناً، فهل يمكن أن تضطره العادات والتقاليد على أن يُرسل لابن خالته "مكتوباً"، وتغني له فيروز:
كتبنا وما كتبنا يا خسارة ما كتبنا
كتبنا مية مكتوب ولهلق ما جاوبنا.
قال أبو سعيد وهو يضحك:
- أرى أنه قد انطبق علينا المثل الشعبي الذي يقول: كنّا في الطب، فإذا بنا نصبح في قلع الأضراس.
- الحق عليك أنت يا أبو سعيد. كلّما جئنا لنحكي عن طقوس زيارة المريض، تطلع لي أنت بنغمة يغريني الحديث فيها، فنترك السيرة وننتقل إلى مكان آخر. على كلّ حال أعدك باستكمال ذلك الحديث الممتع في اتصالك القادم، وأرجو ألا تتأخر عليّ.