02 سبتمبر 2024
العنزة تأكل دفتر التعبير والإنشاء
(إن حكايات الأولاد الذين أصبحوا عالات على آبائهم وأمهاتهم في بلادنا كثيرة، بل إنها لا تعد ولا تحصى). هذا ما ذكره الأستاذ كمال في مطلع سهرة "الإمتاع والمؤانسة". وأضاف قائلاً إنّ الفتى المسطول المشاغب سلمون، الذي روينا بضع حكايات عنه في سهراتنا السابقة، ليس المثال الوحيد. ولكن سلمون ولد ظريف على كل حال.
أم الجود: يعني اليوم في حكاية جديدة عنه؟
كمال: أي نعم. اليوم بدي إحكي لكم حكاية كانْ بطلها سلمون، ومعلم الصف فواز، والمفتش التربوي "حميد" اللي زار الصف التالت الابتدائي، وتعرّفْ على سلمون، وصارت بيناتهم قصة طريفة. بهديكه الأيام، يا أصدقائي، كان الأستاذ فواز من أحسن المعلمين في المنطقة كلها، إنما كان عنده غصة وعقدة نفسية اسمها "سلمون". ذات مرة، كان فواز موجود في اجتماع لمجلس إدارة المدرسة، وسأله المدير أبو فاروق عن أحوال الصف التالت، فجاوبه بإنه الأحوال على ما يرام لولا سوء الحظ.
سأله أحد زملاؤه: أيش بتقصد؟
فقال فواز: الحظ السيء يا زملائي هوي الخصم رقم واحد للإنسان الناجح. أنا، مثلاً، حظي السيء جعل والدتي الله يرحمها تولدني في هاي البلدة قبل تلاتين سنة، وخلاني إدخل في معهد إعداد المعلمين، وإتخرج، وإتعين في هاي المدرسة، وقبل عشر سنين، أم سلمون أنجبت وليدها سلمون في نفس بلدتي، وكبر هالولد وترعرع، ودخل المدرسة اللي أنا بعلّم فيها، وشاءت المصادفات التعيسة إنه يكون تلميذ بصفي وأنا معلمه! برأيكم في حظ أسوأ من حظي؟
أبو محمد (وهو يضحك): لهالدرجة هادا المعلم فواز متألم من سلمون؟
كمال: وأكتر. واللي زاد في الطنبوري نغماً إنه المفتش حميد وصل ع المدرسة بشكل مفاجئ، وأحب إنه يدخل صف لا على التعيين، فدخل الصف التالت اللي بيعلم فيه فواز، وسلمون موجود فيه. لو كان فواز بيعرف إنه المفتش قادم كان سحب سلمون من الصف متلما بيسحب الشعرة من العجين، ووصله لبرات المدرسة وقال له (روح يا سلمون العَبْ وانبسط ولا تجي ع المدرسة لبكرة)، لكن الفاس وقع في الراس، والمفتش دخل، ومن هون بلش النكد.
أبو جهاد: أف. ليش أشو صار؟
كمال: بنفس لحظة دخول المفتش حميد صدر صوت زميرة من بين صفوف التلاميذ! فواز طلب من التلاميذ يوقفوا احتراماً للمفتش، وقفوا، وطلب منهم يقعدوا، قعدوا، وخلال الوقوف والجلوس كان صوت الزميرة يطلع وينزل كما لو أنه موسيقى تصويرية مرافقة للحركة في مسلسل كوميدي!
المفتش حميد استغرب وقال لفواز: أنا راح إطلع هلق من الصف، ويا ريت حضرتك تضبط طلابك منيح، لأن هاي الحركات والأصوات اللي عم تصدر عنهم مو مناسبة، ولا هيي حلوة بحقك يا معلم، يا مربي الأجيال!
وخلال خروج المفتش كان صوت التزمير مرافق لخطواته، وهادا الشي جعل التلاميذ يضحكوا بصوت جماعي عالي. لكن بعد دقيقة واحدة رجع المفتش وقال للمعلم فواز خليني أشوف دفتر التفقد. شاف الدفتر، وعَدّْ التلاميذ ببصره، وتأكد إنه العدد صحيح، وغادر باتجاه الإدارة. فواز جن، صار يسحب التلاميذ من أماكنهم واحد واحد، لحتى وصل لمكان جلوس سلمون، وفجأة التلميذ اللي قاعد قدام سلمون صار يحوص وقال: يا أستاذ هادا سلمون حط لي في رقبتي (بيسة بيسة نو) وصار ضهري يحكني.. فواز سحب سلمون من ياقته، وفتشه، لقى في جيبه ساق نبات القمح الأخضر المجوف، اللي إذا الإنسان نفخ فيه بيزمّر.
قال له: متلما أنا توقعت يا سلمون الزفت، إنته اللي كنت عم تزمر وسببت لي إحراج مع المفتش. هلق ما فيني عاقبك، لأن راح يجي المفتش، بس والله بعدما يروح المفتش لحتى أعمل فيك عمايل. يا واطي يا حقير يا تافه.
سأله سلمون ببراءة: أستاذ، أشو معنى (تافه)؟
لم يرد عليه فواز.. سحبه إلى خارج الصف وقال له: خليك واقف هون.
أم زاهر: إذا قلعه بيصير عنده نقص في عدد التلاميذ.
كمال: نعم. وهادا الشي بيعرفه فواز، منشان هيك صار يترجاه لسلمون ويقول له: أنا بوجهك يا معود، مَضّي علي هالساعة، وبس يروح المفتش اعمل اللي بدك ياه. إذا بتلتزم معي وبتبقى ساكت خلال هالدرس بيصير إلك دين في رقبتي، طول عمري ما فيني وفيك ياه. بتوعدني تبقى ساكت؟
سلمون: ببقى ساكت، ما بتفرق معي.
قالت أم الجود: عظيم يعني انحلت.
كمال: ما انحلت مع الأسف. المهم إنه فواز شجع سلمون على السكوت وسلمون بالفعل بقي ساكت. لكن اللي صار بينطبق عليه المتل الشعبي اللي بيقول (إنه أنا مسكت الحرامي وما بحسن أفلته لأن هوي ما عم يفلتني). المفتش بعدما رجع ع الصف، وقف وقال لفواز (إذا ممكن خلينا نراجع آخر درس التعبير..). طلب فواز من التلاميذ إخراج دفاتر التعبير بسرعة، وفتحها على الدرس الأخير وهو: اكتب موضوعاً عن فصل الربيع. وبلش فواز يشجع المفتش على مشاهدة دفاتر التلاميذ الأذكياء الشاطرين، ولكن المفتش ذهب مباشرة إلى سلمون وقال له: وين دفترك يا شاطر؟
سلمون: والله يا أستاذ كان عندي دفتر، لكن أكلته العنزة!
ضحك التلاميذ بينما فواز كاد يجن من غيظه.
حميد: حلو كتير. وكيف أكلته العنزة؟ احكي لي القصة لأشوف.
سلمون (بالفصحى): يا أستاذ نحن كان عندنا درس تعبير، وموضوع الدرس عن الربيع، أستاذنا فواز طلب منا أن نطلع إلى الطبيعة، ونكتب الموضوع في الهواء الطلق. طلعنا. ولما كنا ماشين في الهواء الطلق، أنا شاهدتُ نبتةَ كَرْبَج.
فواز: عفواً أستاذ، ترى التلميذ سلمون عم يكذب. نحن عملنا درس التعبير هون في الصف. ما طلعنا ع الطبيعة.
تجاهل حميد ملاحظة المعلم فواز، وقال لسلمون وهو مبتسم: وما هو الكربج؟
سلمون: نبات يشبه الخس. يقتلعونه من التراب ويغسلونه ويأكلونه. أنا لا أحب اقتلاع الكربج، عندما أراه أنبطح فوق الكربجة وآكل منها. وعندما انبطحت وصرت آكل التفت فرأيت خمس عنزات وعشرة جدايا حولي يأكلون الكربج. الأستاذ فواز صرخ علي وقال لي (خلص بقى ولاك سلمون شوف شقاوتك أشو عملت فينا).. أنا وقفت، وذهبت لكي أسترد دفتري وأكتب موضوعاً عن الربيع، فوجدت العنزة تأكله. أنا سامحتها. قلت لها صحتين.
ضحك التلاميذ وضحك معهم المفتش حميد وقال لفواز: بتعرف يا أستاذ؟ لو كان هادا التلميذ كتب الموضوع متلما حكى لي إياه بيطلع موضوع جميل جداً. وأفضل بكتير من الموضوعات التقليدية اللي بتقول أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً!