السجين حموش وحبيبته فوزا
هذه القصة مؤجلة من سهرة الإمتاع والمؤانسة السابقة. السيدات اللواتي يشاركننا السهرة يمتلكن ذاكرة حديدية، فكلما التقينا في سهرة جديدة تنبري إحداهن وتقول: "وعدتونا إنكم تحكوا لنا الحكاية الفلانية". ويكون الكلام موجهاً للشخص الذي جاء على ذكر الحكاية وطلب من الآخرين أن يُذَكِّروه بها لاحقاً.
قالت السيدة حنان: صديقنا أبو مرداس وعدنا يحكي لنا عن الشاب المعتقل اللي اشتغل في السجن بصفة جاسوس لأحد الضباط.
أبو المراديس: نعم. وأنا راح إحكي لكم الحكاية متلما سمعتها من أحد الناجين من سجن تدمر الرهيب. وبأمانة. أخونا أبو زاهر أكد لنا مرة إنه معظم سجناء تدمر كانوا مظلومين، واللي تهمته ما بتتطلب ينحبس شهرين، لما انعرض على سيئ الذكر فايز النوري حكمه خمس سنين، أو عشر سنين، أو خمسطعش سنة، وفي متهمين حكمهم مؤبد أو إعدام. الحقيقة ما عرف تاريخ هالبلاد ممثل للقضاء مجرم بحجم فايز النوري. وطبعاً إجرامه منسجم مع إجرام النظام اللي بيمثله.
أبو ماهر: أنا ما انسجنت، لكن بحسب ما سمعت من أصدقاء كانوا مسجونين إنه كلمة "مجرم" ما بتكفي لوصف فايز النوري.
أبو المراديس: منجي هلق لقصة السجين "حموش"، طبعاً حموش اسم افتراضي، أصلاً أنا ما بعرف إسمه الحقيقي. بحسب ما سمعنا إنه حموش كان بريء من كل التهم الموجودة في إضبارته، وفايز النوري أثناء جلسة المحاكمة استغرب إنهم جايبينه لعنده، بدليل إنه بعدما فتح الإضبارة اتصل بالهاتف وسأل عنه وصار يقول: أيوه. مكتوب فيه تقارير. طيب.
وسكر الهاتف وتطلع في وجه حموش وصفن، وكأنه عم يقول له (اسم إنك حبيت تزورنا ما راح نردك خايب) حكمناك سنتين. حموش ما قال شي، وهادا دليل آخر على غباؤه. لأنه المفروض فيه يصيح (يحيا العدل)، فانزعج منه فايز النوري وقال له: عملناهن خمس سنين. هاتوا لي اللي بعده.
قال له: أهلين فيك يا إبني يا حموش. الحقيقة إنه زملائي الضباط، وعناصر الخدمة، كلهم بيشيدوا بأخلاقك وانضباطك، وخبروني إنك تبت وما عاد مفكر تعادي السيد الرئيس..
وكان كل الناس الموجودين في السجن محكومين خمس سنين، أو عشر سنين، أو خمسطعش سنة، حتى سمعت إنه كان في سجن تدمر مهجع إسمه مهجع البراءة، وبعد مدة صاروا مهجعين، الموجودين في هالمهجعين كلهم أبرياء، لكن نظام الأسد خلاهم في السجن من باب التَفَكُّه، أو ربما قالوا لهم ما معناه: اقعدوا عندنا، أيش في وراكم؟!
وفجأة، إجا ع السجن ضابط جديد، هادا الضابط طلعتْ في راسه نغمة، وهيي إنه الأحكام اللي عم يصدّرها فايز النوري مو صحيحة، وأكترها متساهلة وضعيفة! وراحْ قابل مدير السجن، وعرض عليه الخطة الموجودة في راسه، وهيي إعادة التحقيق مع المحكومين، وإعادة محاكمتهم على ضوء التحقيقات الجديدة، منشان كل واحد ياخد الحكم اللي بيستحقوا. وقال لمدير السجن: لكان معقولة هالكلاب يتآمروا ع السيد الرئيس، ونحن نحويهم عندنا، ونطعميهم، ونسقيهم، ونغنجهم، وبعد عشر سنين أو خمسطعش سنة، نقول لهم (لا تواخذونا) ونخليهم يرجعوا لعند أهاليهم؟ وين العدل يا سيدي؟
أبو زاهر: عجبتني كلمة (نغنجهم). الأوباش بيستمروا بتعذيب السجين طول فترة السجن، ولا في طعام صالح للأكل، ولا في شمس، ولا في دكتور، ولا في دوا، وبيقول لك عم نغنجهم!
أبو المراديس: المهم، ولحتى يحصَل الضابط الجديد على المعلومات اللازمة لإعادة التحقيق استدعى السجين "حموش"، وقال له: أهلين فيك يا إبني يا حموش. الحقيقة إنه زملائي الضباط، وعناصر الخدمة، كلهم بيشيدوا بأخلاقك وانضباطك، وخبروني إنك تبت وما عاد مفكر تعادي السيد الرئيس.. وأنا بصراحة درست إضبارتك وتبين لي إنه الحكم الصادر عن فايز النوري بحقك حقير ولئيم، لأنه التهمة في الأساس زغيرة، وعلى كل حال، مضت سنة وباقي عليك أربع سنين، وهلق إذا بتتعاون معي، وبتعمل متلما بقول لك، راح إخلي سبيلك، وإبعتك لعند (فُوزا).
حنان: ومين هاي فوزا بلا زغرة؟
أبو المراديس: هادا الملعون الضابط كان دارس إضبارة حموش بدقة، وفيها أن حموش كان خاطب بنت اسمها فوزا، وبيحبها كتير، ويوم العرس اللي استمر للساعة تلاتة وش الصبح، حموش رقص ودبك، وشالوه رفاقه ع كتافهم، وغنوا له (مبارك عرسك يا عريس بهالساعة الرحمانية)، وبعد التي واللتيا، وبلا طول سيرة، صار حموش وفوزا في عش الزوجية، وسكروا على حالهن الباب، وفجأة سمع رنين جرس الباب، فقال لفوزا: أكيد أمي لما رتبت لنا البيت نسيانة شي وبدها تقلي ياه.
وفتح، وإذ بيلاقي شي عشر بواريد روسيات موجهات ع صدروه، وواحد عم يقله: هس. ولا كلمة. إمشي قدامنا بلا شوشرة.
وبعدما صار حموش في السجن، ورغم الضرب والإهانات والبهدلة بقي متعلق بفوزا، وما بيمر نهار إلا بيحكي لرفاقه المساجين عنها، وعن الحب المتبادل بينه وبينها، وإنه راح يعد الأيام والليالي ليخلص حكمه ويرجع لها. منشان هيك لما سمع من الضابط بموضوع إخلاء السبيل انبسط كتير، وبلش ينفذ أوامره بحذافيرها، ولما يبعته ليتجسس على واحد من السجناء كان يتصرف وكأنه جاسوس محترف، بيحكي لزميله السجين عن بعض أسراره، فبيتورط السجين وبيحكي له، وهوي بدوره بياخد المعلومات وبيوديها للضابط. وخلال أيام قامت اللجنة الأمنية العليا بإعادة دراسة أضابير المعتقلين، على ضوء المعلومات اللي كان حموش يحصلها من رفاقه ويسلمها للضابط، قسم كبير منهم تحول حكمه من سجن عشر سنين أو خمسطعش سنة للإعدام.. ولما انتهت مهمة حموش في التجسس على رفقاته، وبعدما تسبب بإعدام عدد لا بأس به من السجناء، راح لعند الضابط وطلب منه يوفي بوعده، ويخلي سبيله، حتى يروح لعند فوزا، فقال له الضابط: وجب. عن جد يا حموش أنت إنسان محترم، وراقي، وبتستاهل كل خير.
ونادى على السجانين تبعه وقال لهم: يا إبني خدوا الأخ حموش لعند فوزا.
فأخدوه ع المشنقة، ومن يومها المساجين تعلموا مصطلح جديد، لما واحد يسأل عن سجين وين صار؟ كانوا يجاوبه: أخدوه لعند فوزا!
يعني إعدام!