الحياة بإتقان
سعيد ناشيد
كتب الفيلسوف الروماني ماركوس أوريلوس، في (تأملاته) يقول: "الحياة مسرحية على كلّ واحد أن يؤدي فيها دوره بإتقان".
لعله تشبيه جميل، لكن فارقًا هنالك: داخل مجال المسرح هنالك فرصة للتمرّن على إتقان الدور قبل موعد العرض، هنالك أوقات للتمارين، حيث يمكن تكرار المحاولة أو تغيير المشهد عدّة مرات، أما داخل مجال الحياة فلا تتاح فرصة التمرّن على إتقان الدور إلّا أثناء العرض، والذي يكون مرّة واحدة، بلا رجعة، وبدون مراجعة. حيث الرمية الأولى هي الأخيرة. هنا مكمن التحدّي.
يُحبُّ الرواقيون تشبيه الحياة بالمدرسة. لعله تشبيه صحيح. حيث هنالك جرس للدخول وجرس للخروج، والفارق أنّ جرس الخروج هذه المرّة لا ننتظره بشغف. وحيث هنالك أيضا دروس وامتحانات، لكن لا توجد فترة للتعلّم وأخرى للامتحان، بل كلّ الحصص امتحانات، والدروس تُؤخذ مباشرة من الامتحانات، أو هكذا يُفترض. الامتحانات في مدرسة الحياة هي الفرصة الوحيدة للإنسان لكي يتعلم.
في بعض النصوص الدينية تُعتبر الحياة امتحانًا. هذا صحيح، لكن ينبغي أن نحمل المعنى على ما سبق قوله، بحيث يُفترض أن يتعامل الإنسان مع محن الحياة باعتبارها فرصته السانحة لتنمية القدرات الأساسية للحياة. وكما يقال، البحر الهادئ لا يصنع بحارًا جيدًا.
هل معنى ذلك أنّ الإنسان يولد غير قادر على الحياة، فيحتاج بالتالي إلى تعلّم ذلك؟
بالضبط، معضلة الإنسان أنه يرث الدافع إلى الفعل دون أن يرث كيفية الفعل، فإنه يرث مثلاً الدافع إلى الأكل والجنس والتواصل والبقاء دون أن يرث كيفية تحقيق تلك الدوافع، فيحتاج بالتالي إلى أن يتعلّم المهارات الأساسية حتى لا يؤذي نفسه. أما الحيوانات فإنها ترث الدافع والكيفية معاً، مثلاً، ترث الدافع إلى الأكل، وترث في الوقت نفسه معرفة ماذا تأكل؟ كيف تأكل؟ كم تأكل؟ وذلك خلاف الإنسان الذي لا يرث إلّا الدافع إلى الأكل، فيحتاج إلى سنوات طويلة من التنشئة والتعلّم حتى لا يأكل ما قد يهلكه، أو يأكل بكيفية قد تهلكه. كذلك القول عن التزاوج، التواصل، رعاية الصغار، حفظ البقاء، وغير ذلك من الدوافع الأساسية للحياة.
الحياة هي الأفعال التي ننجزها بين فعلين مطلقين، فعل الولادة وفعل الوفاة
يرث الإنسان الحياة دون أن يرث معها المهارات الأساسية للحياة. فلكي يأكل عليه أن يتعلّم ذلك، لكي يمشي عليه أن يتعلم ذلك، لكي يتواصل عليه أن يتعلم ذلك، لكي يحافظ على وجوده ويعيش مع الآخرين، عليه أن يتعلم ذلك. وبالجملة لكي يعيش عليه أن يتعلم كيف يعيش؟
الحياة أفعال وردود فعل، يصقلها الإنسان داخل معركة الحياة، لذلك لا يتأتى تحسين القدرة على الحياة إلا بتحسين جودة الأفعال وردود الفعل.
الحياة هي الأفعال التي ننجزها بين فعلين مطلقين، فعل الولادة وفعل الوفاة. ولقد اختصر محمود درويش القول حين لخص حياته في أفعال مبعثرة تحاكي اكتظاظ الحياة: "أَمشي/ أهرولُ/ أركضُ/ أصعدُ/ أنزلُ/ أصرخُ... أسرع/ أبطئ/ أهوي... أسقط/ أنهض/ أركض/ أنسى/ أرى/ لا أرى/ أتذكر/ أسمع/ أبصر... " (لاعب النرد).
أول فعل مذكور هنا، "أمشي"، لعله الفعل الأكثر حضورًا في الشارع والحياة اليومية للناس، الكل يمشي جيئة وذهابا، بهدف أو بلا هدف. والحال أنّ الإنسان يهوى المشي، حتى وإن كان بدون هدف. لذلك يمثل المجاذيب المتسكعون الإنسان في انكشافه التام، حيث يستمرّ الدافع إلى المشي إلى أبعد حدود العقل والمصلحة. ولذلك أيضا يخسر المجانين كلّ ملذات الحياة إلا شغف المشي.
غير أنّ المشي مهارة تتطلّب من الطفل وقتاً طويلاً من التعلّم والمحاولة والتعثر، وفي النهاية ستكون خطواته الأولى إنجازاً يُفرح الأسرة بأسرها. لكن إتقان المشي درجات. والواقع أنّ قليلين من يحرصون على تطوير أسلوب في المشي يتماشى مع صحّة الجسد، يحافظ على طاقته، ويحمي توازنه.
الوظيفة الأكثر نبلاً وأصالة للفلسفة هي تنمية القدرة على الحياة، وتجويد الأفعال وردود الفعل اليومية. هذا ما ألحّ عليه الأبيقوريون، والرواقيون، وتبنّاه أبو إسحق الكندي، ومونتين، وسبينوزا، وشوبنهاور، ونيتشه، وبالجملة كبار الفلاسفة. بمعنى أن وظيفة الفلسفة هي إتقان مهارة العيش، بما يحفظ صحة الإنسان جسديا ووجدانيا، ويضمن نموه وارتقاءه جسديا وروحيا.