ثورة الحب الدائمة

06 نوفمبر 2024
+ الخط -

قد أصدم البعض عن غير قصد، حين أؤكّد ابتداءً أنّ الحبّ اكتشاف حديث العهد، حتى وإن كان قد وُلد داخل الأدب قبل مئات السنين، فمن طبيعة الحلم الإنساني أن يكون متقدّمًا على الواقع الإنساني، ولهذا السبب علينا أن نقرأ الأدب.  

في مستوى الحلم وُلد الحبّ مبكرًا، لا ننكر ذلك، لكن في مستوى الواقع يختلف الأمر، حيث لم يصبح الحبّ مُعطى واقعيًّا إلّا مع تطوّر الحضارة المعاصرة. بل هكذا أقول لمزيدٍ من التوضيح، حتى داخل الرّوابط الأسرية، والعلاقات الزّوجية، وفي مستوى رعاية الأبناء أيضًا، فإنّ الحبّ لم يبدأ في الرسوخ كقيمةٍ أخلاقيّة إلّا منذ عقود قليلة من الزّمن. إذن، ماذا كان قبلها؟ كانت أعمدة التربية والتنشئة تقوم على العنف، الطاعة، العقاب، والتلقين، وذلك في أجواء السخط والتأثيم والتذمّر. ثم ماذا عن المدرسة؟ الحبّ في حجرات التدريس لا يزال يتقدّم ببطءٍ شديد، وقبل زمن قصير كانت أعمدة التعلّم تقوم بدورها على العنف، الطاعة، العقاب، والتلقين، وذلك في أجواء الهذر والتسرّب والفلقة. ثم ماذا عن الزواج؟ الزواج القائم على الحبّ لا يتعدّى عمره العالمي مئة أو مئتي عام على أبعد تقدير، كما تؤكد معظم الدراسات المعاصرة، والتي مهما شككنا في بعضها فإنّ ذاكرة آبائنا تؤكد كيف كانت الروابط الزوجية إلى وقتٍ قريب تُعقد بالتوافقات العائلية والقبليّة، وعلى أساس ستر العرض، حفظ الفرج، وطاعة الزوج، وذلك كلّه في أجواء مشحونة بالضرب والهجر والنشوز وسموم العنف المكتوم. أما بخصوص السياسة فليس خافيًا أنّها تمثّل المجال الأكثر تأخّرًا عن ثورة الحبّ، حيث لا تزال الروابط السياسية تقوم معظم الأحيان على الغلبة والقوّة والتمكين، وذلك كلّه في أجواء يسودها المكر والخديعة والدسائس.

سأجازف بالقول إذًا، تحديث مختلف الروابط الإنسانية معناه الانتقال من علاقاتٍ قائمة على قيم الطاعة والخوف والقوة والغلبة والعصمة والتدافع والاحتراب والتستّر والكتمان والتمكين، إلى علاقاتٍ قائمة على قيمة الحب. وإذا كانت الحداثة مشروعا لم يكتمل بعد، كما يؤكد هابرماس، فلأن ثورة الحبّ نفسها لا تزال في المرحلة الجنينية.

الزواج القائم على الحبّ لا يتعدّى عمره العالمي مئة أو مئتي عام على أبعد تقدير، كما تؤكد معظم الدراسات المعاصرة

عندما انهمرت دموع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تعاطفًا مع آلام أطفال اللاجئين السوريين، استنتج الكثيرون أنّ "رحمتها" مجرّد عينة غير معبّرة لواقع دولي مليء بالعنف والهمجية والنفاق، وهو استنتاج صائب بالفعل. لكن ماذا ينبغي أن نستنتج من هذا الاستنتاج؟! 

قبل قرن واحد فقط، كان استقبال ألمانيا لمئات اللّاجئين من العالم الإسلامي دون اشتراط تغيير العقيدة أو الولاء، كما كان استقبال المغرب لمئات اللاجئين من إفريقيا جنوب الصحراء دون اشتراط تغيير العقيدة أو الولاء، كان ذلك من الأمور التي لا يمكن تخيّلها، اللهم إلّا إن كان الدخول سيتحقّق بالقوة على طريقة الغزاة. واضح إذن أنّنا أمام مكتسب لا يمكن إنكاره، وذلك بصرف النظر عن المظالم التي ستحتاج إلى عشرات السنين من الكفاح الرصين. صحيح أن ثورة الحب لا تزال في مراحلها الجنينية، إلا أنّ إنكارها لن يفيد سوى في إجهاضها ووأدها، وبالتالي استفحال الهمجية التي سيزداد فيها الأقوياء قوّة والضعفاء ضعفًا.

الحبّ هو المنقذ إذا. إلا أن هناك سؤالا يحرج أنصار الحب: 

إن كان الرهان على الحبّ رهانًا على السمو والنمو والفرح والسلام، فلماذا لا يخلو هذا الحبّ المجيد من آلام وأوجاع تجعل الكثيرين يتوجسون منه، ويفضلون العيش في تباعد مثلما تفعل القنافذ مع بعضها؟

صحيح أن ثورة الحب لا تزال في مراحلها الجنينية، إلا أنّ إنكارها لن يفيد سوى في إجهاضها ووأدها، وبالتالي استفحال الهمجية

كيف نفهم آلام الحب إذا؟ وهل هناك فرصة لحبٍّ أكثر أمنًا وأمانًا، أم أنّ الأصل في الحبّ عدم وجود أيّ حبٍّ سعيد كما يقول الشاعر لويس أراغون، وعدم وجود أيّ حبٍّ آمن كما يقول الفيلسوف ألان باديو، وكلّ ما نحتاجه هو التحمّل!؟

سأجازف ببسط فرضيتي في الموضوع، وهكذا يمكنني القول: إنّ تعقيدات الحب وتوتراته، وحتى بعض خيباته ومآسيه وكوارثه، لا يعود سببها إلى الطبيعة الدراماتيكية للحبّ كما يؤكد لوك فيري، بل يعود سببها إلى أنّ ثورة الحبّ لا تزال في بداياتها الأولى، بل لا تزال في مرحلتها الجنينية، وأنّها لم تكتسح أهمّ مجالات الحضارة كما ينبغي، أو ليس بعد، بل حتى في مجال الفلسفة نفسها لم تظهر الكتابات الفلسفية المخصّصة للحب إلا خلال العقود الثلاثة الماضية. لأجل ذلك كلّه قد تستغرق ثورة الحبّ عشرات السنين قبل أن يتمكن الإنسان من ترويض الوحش البدائي الكامن فيه، وكلّ ما ينبغي فعله هو المساهمة في هذه السيرورة. 

ليس الحبّ وحده، ليست الحداثة وحدها، بل الإنسان نفسه مشروع لم يكتمل بعد. 

سعيد ناشيد
سعيد ناشيد
سعيد ناشيد
باحث مغربي في الفلسفة والإصلاح الديني، ورئيس مركز الحوار العمومي والدراسات المعاصرة (الرباط). صدر له عدد من الكتب، منها "التداوي بالفلسفة"، و"دليل التدين العاقل"، و"قلق في العقيدة" و"الوجود والعزاء". له مساهمات في بعض المؤلفات الجماعية، من بينها: كتاب بالإنجليزية تحت إشراف المستشرق البريطاني ستيفن ألف، بعنوان Reforming Islam:Progressive Voices From the Arab Muslim World، 2015.
سعيد ناشيد