الوقوع في الحب حافزاً إلى النمو
سعيد ناشيد
يُحفّزنا الوقوع في الحب إلى أن ننمو أكثر، أو هكذا يُفترض. وإن كان مُعظم محاولاتنا تخطئ المرمى، فالأمر شبيه بكرة القدم حيث المحاولات التي تصيب الهدف قليلة لكنّها كافية في المقابل. سواء في الحبِّ أو الكرهِ، فإنّ مهارات الجسد ينبغي أن توازيها مهارات العقل أيضًا. لكن ما الذي يجمع العقل بالحبِّ إذًا؟
في واقع التجربة الإنسانية، يبدو الحبّ والعقل كما لو أنّهما ضدّان لا يلتقيان، ما إن يحضر أحدهما حتى يغادر الآخر، وهو ما تؤكّده معظم التجارب الرومانسية، إذ كثيرًا ما تنسحب آلة العقل من المناطق التي تحتلها مشاعر الحب، كثيرًا ما يخبو لهيب الحبّ أمام حسابات العقل الباردة، كثيرًا ما يشعر العاشق كما لو أنّه فقد عقله جزئيًّا أو كليًّا، إلّا أنّ المفارقة في المقابل، أنّ الحبّ نفسه ينبع من الجزء الأكثر تطوّرًا والأكثر حداثة في العقل، وبذلك النحو يتميّز من دافع الجنس الذي يضرب بجذوره في أعماق الدماغ الزواحفي.
الفرق بين الجنس والحبّ هو فارق في التطوّر إذًا، وهو يماثل الفرق بين الجوع والشهيّة. فالجوع يدفعنا إلى الأكل، وكذلك الشهيّة تدفعنا بدورها إلى الأكل، لكن ها هو الفرق: الجوع دافع بيولوجيّ محكوم بالحاجة والنّقصان، تترجمه عبارة، أنا أحتاج إلى الأكل، وإذا اشتدّ بي الجوع فقد آكل أيّ شيءٍ! لكن الشهيّة دافع تأمليّ، يتعلّق بالتمثّل الذهني لما قد أشتهيه، وتترجمه عبارة، أنا أرغب في أكلِ نوعٍ محدّدٍ من الطعام.
كذلك الأمر في ما يخص الجنس فهو دافع بيولوجيّ، إذا اشتدّ بي فسأحتاج إلى "أيّ امرأة" أمّا الحبّ فهو دافع تأمّلي يتعلّق بالتمثّل الذهني للمعشوق، وبكلِّ ما يحيل إليه ذلك من مخزون في الذاكرة ومُمكنات في الخيال. على أني وإن اشتدّ بي الحبّ فلن أحتاج إلى "أي أحد" بل سأحتاج إلى "واحدٍ محدّد".
عبارة "أيّ أحد"، لا تُحيل إلى أحدٍ بعينه، بل قد لا تُحيل في النهاية إلى أيّ أحد! أمّا عبارة "واحد محدّد" فإنها تحيل إلى واحد بعينه، تحيل إلى ذلك الآخر الذي هو ليس آخَر الذات، بل ذاتًا أخرى، والذي يمثّل امتدادًا وجدانيًّا للجزء الأنثوي أو الذكوري من الذات وفق محاورة المأدبة لأفلاطون، وفوق ذلك يمثّل امتدادًا وجوديًّا للجزء الناقص من الكينونة، ما دامت الكينونة محكومة بالنقصان في كلِّ أحوالها، وما دام الحبّ صفقة سرّية لغاية تكامل الأدوار أو الأحلام، وأملًا في استكمال النمو جنبًا إلى جنب ويدًا بيد، إلى أن تسقط الثمرة عند نضجها الأخير.
إن اشتدّ بي الحبّ فلن أحتاج إلى "أي أحد" بل سأحتاج إلى "واحدٍ محدّد"
حين نقول، إنّ بعضنا يحبّ بعضاً، فمعناه أنّنا نريد أن ننمو معاً إلى أقصى المُمكنات، وإلى تخوم المحال. وقد حدث شيء كهذا: لقد انجذبتُ إليها منذ الوهلة الأولى التي رأيتها تقرأ رواية في القطار. لا أعرف ماذا جرى في عقلي، لكن ربّما قلت هكذا: ستكون صديقة مهذبة وتناقش المواضيع الراقية، ستكون زوجة رومانسية ولديها قدرة على مناقشة المشكلات بهدوء، ستصنع غرفة نوم في منتهى الروعة والجمال، ستكون أُمًّا لطيفة، وأبناؤها يحبون القراءة، وفوق ذلك قد تساعدني في العثور على أفكارٍ جديدة لمشاريعي المستقبلية، وفي المقابل قد أساعدها لكي تستكمل دراستها.. من يدري؟ ربّما هي التي تنقصني كي أنمو أكثر، ربّما هي الذات الأخرى التي أبحث عنها، ومن ثم سيكون مبلغ همي كلّ يومٍ أن أحرز وأحافظ على إعجابها، وسأبدأ من الآن. لكن لماذا هذا الهمّ أصلًا؟
إذا كانت كلّ ذاتٍ كما يرى الفيلسوف فريدريك هيجل، تسعى إلى نيل إعجاب الآخرين واعترافهم، فما الداعي إلى الكفاح الشاق والمضني لأجل نيل إعجاب شخص محدّد واعترافه؟
دعنا نرَ ماذا يحدث في الملاعب الأكثر شهرة في عالم اليوم: على مدرّجات ملعب كرة القدم حيث يصفق الآلاف لهدف النصر، يحدث أن يركض مسجّل الهدف نحو الجهة التي تجلس فيها حبيبته لكي يرسم بيديه إشارة الحب. إنّها قوّة الحب إذًا، حيث يسعى البطل إلى نيل إعجاب آلاف الآلاف، لكنه لا يكتفي، إلا أنّ إعجاب شخص واحد قد يعني له كلّ شيء.
الحبّ طاقة تأملية تساعد الإنسان على تحقيق السمو الروحي والتهذيب الأخلاقي، وهذا ما يتناغم مع المقاصد العليا لمعظم الخبرات الدينية
يثيرُ الحبّ في الإنسان أجمل ما فيه، ألا وهو حُسن الاعتناء بالذات، سواء من حيث الشكل أو المضمون، ويجد صياغته في العبارة الآتية، أرغب في هذا الشخص بالذات، أرغب تحديدًا في أن أحقّق أفضل نسخة مني من أجل أن أحظى بإعجابه، ليس الدافع هنا بالأمر الهيّن، إذ إني أمام الشخص الذي وقعتُ في حبّه أريد أن أصير أفضل، أتصرّف أفضل، أكتب أفضل، أرسم أفضل، أحصل على مراتب أفضل، صحيح أنّ نيل إعجاب الجميع وارد في كلِّ الأحوال، لكن شخصًا واحدًا قد يمثّل الحافز الأقوى، فيكون حضوره في مقاعد المتفرجين بمنزلة الشجرة التي بإمكانها أن تخفي الغابة!
ليس الحبّ حاجة مثل سائر الحاجيات البيولوجية التي تنتفي مباشرة عقب تحقّقها، إنّه لا يشبه الحاجة إلى الأكل، والتي تنتفي بعد الشبع. كما أنّ الحب ليس رغبة تتطلّع بطبعها إلى المزيد، مثل الرغبة في امتلاك شيء واحد، ومن ثم اثنين، ثم ثلاثة، إلى آخر العمر.
الحبّ طاقة تأملية تساعد الإنسان على تحقيق السمو الروحي والتهذيب الأخلاقي، وهذا ما يتناغم مع المقاصد العليا لمعظم الخبرات الدينية، وقد أدرك روّاد التصوّف النظري ذلك، وأدركه أيضًا كثير من المصلحين الدينيين، سواء في الإسلام، أو غيره من سائر الأديان. وهذا مقام آخر للقول.