اسمي أبو سطام
في الاتصال السابق، سألني أبو سعيد، عن السبب الحقيقي الذي جعل صديقي "أحمد خالد الوعل" يشذ عن القاعدة، ويطلق على ابنه البكر اسم "سطام"، متجنباً التسميةَ باسم والده، "خالد".
أجبته بأنني أعرف السبب من خلال أبو سطام نفسه، وأنا، بصراحة، لست مقتنعاً بصحة ما رواه لي، ولكنه شيء طريف، كالعادة. أذكر أنه قال لي:
- أنا، يا أبو مرداس، كما تعلم، كنت موظفاً نشيطاً في شركة اللف والدوران الأهلية المتحدة (كناية عن البطالة!)، داشراً، أعمل مدة قصيرة من الزمن، ثم أُلْفَظ، وأُعَاد إلى الشوارع مثل كلب سلوقي. وكانت فترات البطالة عندي أطول من فترات العمل. وذات مرة، توسط لي عمي أبو نافع، والدُ زوجتي، عند صديقه مدير مديرية الزراعة، فحصلتُ على وظيفة، بعقد موسمي مدته 87 يوماً.
استوقفته وسألته: لماذا 87 يوماً، وليس تسعين يوماً، مثلاً؟
قال: لأن الدولة، عندنا، شاطرة، وحويطة. مديرو الدوائر الحكومية كلهم يعرفون أن الموظف الذي يمضي ثلاثة أشهر متواصلة في عمل ما، يصبح من حقه أن يرفع دعوى قضائية على الدائرة التي تشغله، ويلزمها بتثبيته. وهذا الأمر كان مفيداً لي، فلو كنت موظفاً مثبتاً، وأموري ماشية، لما بقي عندي شيء أحكيه للناس عن البلاوي الزرقاء والمآسي التي تحل بي. وأنت تعلم أن سر نجاحي يكمن في الإخفاق، وفي منافسة الكلاب السلوقية والجعارية على الركض في الشوارع والأزقة. الغريب في الأمر أنني، عندما التحقت بالوظيفة، طلب مني موظف الشؤون الإدارية أن أداوم في قسم الإحصاء، وهذا القسم لا يعرف أحدٌ السبب الذي جعلهم يُحْدثونه في دوائرنا الحكومية. شيء لا لزوم له على الإطلاق. ويبدو أن مدير الزراعة يعرف هذه الحقيقة، فخصص لقسم الإحصاء غرفة لا يستطيع أحد أن يبلغها بسهولة، فهناك كوريدور جانبي يوصل إلى مستودع الأضابير المُعَدّة للإتلاف، وهي عبارة عن غرفة صغيرة مجاورة لمراحيض المديرية، فيها ثلاثة موظفين مثبتين يشتغلون نصف النهار في شرب الشاي وتناول قضوضات الزيت بالزعتر، ويمضون بقيةَ النهار في إجراء مساجلات قوية تتعلق بأنساب أهل مدينة إدلب.
- الأنساب؟
- نعم، فمن الضروري جداً أن يعرف أولئك الموظفون الصناديد أصلَ كل واحد من أهل المدينة، ومَخْوَلَه، أي أسرة والدته، ولِمَنْ زوج ابنته، ومَن خطب لابنه، وكم طلبوا منه حق رقبتها، وكيف أن خطبته السابقة تفركشت (أي: أبطلت) في آخر لحظة، لأنهم، أثناء وجودهم في دكان الصائغ، طلبت العروس من العريس أن يشتري لها إسورة وزنُها أثقل من الوزن الذي اتفقوا عليه، وثمنها، بالتالي، أكبر من الثمن المتفق عليه، فاقترحت والدتُه أن يدفع أهل العروس الفرق، ولكن دماغ أم العروس جزمة قديمة، لذلك رفضت، وقالت لهم: ابنتنا عندنا وابنكم عندكم، فقالت لها أم العريس: بالناقص منك ومن بنتك، خذيها معك إلى داركن، ضعيها في قطرميز، واكبسيها مثل المخلل.
مديرو الدوائر الحكومية كلهم يعرفون أن الموظف الذي يمضي ثلاثة أشهر متواصلة في عمل ما، يصبح من حقه أن يرفع دعوى قضائية على الدائرة التي تشغله، ويلزمها بتثبيته
شعر أبو سطام أنني أخفي ابتسامتي، وأكاد أنفجر بالضحك، فقال: أعرف أن ما أحكيه لك لا يمت بصلة مباشرة إلى سؤالك عن السبب الذي جعلني أسمي المحروس ابني (سطام)، ولكن، حلمك علي، فأنا أرى من الواجب عليّ أن أضعك في صورة الشغل في تلك المديرية، وبالأخص قسم الإحصاء.
- طيب. أكمل.
- اعلم، يا أبو المراديس، أن الإدارة كانت تطلب عمالاً موسميين للأقسام اللي عليها ضغط شغل، متل قسم رش المبيدات، وقسم توزيع الأكياس الفارغة على الفلاحين في موسم الحصاد، ولكن المدير طلب مني أن أداوم في قسم الإحصاء الذي لا قيمة له إرضاء لعمي أبو نافع، الذي توسط لي عنده.
- تمام. ولكن حتى الآن، لا يوجد في حديثك ما يوحي بأنك ستخبرني بسبب تسمية ابنك "سطام"!
- حلمك علي. وصلنا الآن إلى بيت القصيد. فبعد دوام عشرين يوماً، كنت أساهم فيها مع الموظفين في شرب الشاي، وتناول قضوضات الزيت بالزعتر، والحديث عن الأنساب، والزيجات الناجحة والفاشلة؛ دخل علينا، دون سابق إنذار، رجل وجهُه مثل الكمبيالة المستحقة، له عضلات مبرومة، وبطن ضامر، وشعر كثيف أجعد.. أنا، وقتها، صُدمت.
- لماذا؟
- لا أخفي عليك، أنا كلما شاهدتُ رجلاً من هذا القياس تتغير طبيعة ردود أفعالي، إذ أصبح خائفاً أن يخطر له، في أية لحظة، أن يجمع قبضته ويضربني بوكساً يقذفني به ستة أو سبعة أمتار إلى الأمام، أو أن يخطئ في مشيته، فيدوس على قدمي، ويهرس عظامها مع السلاميات.. وأنا لم يخب ظني، أو توقعي، فأول شيء بدر عن الرجل أنه صار يوبخنا، وكأننا أبناء زوجته الأرملة، وخلص إلى القول:
- أليس من المعيب أن تصرف المديرية على قسم الإحصاء ما فتح الله ورزق من المال، وتعلف موظفينَ لا يفيدونها بقرش سوري واحد؟
كان بين الموظفين الثلاثة واحد عمره 59 سنة، وباق له سنة واحدة حتى يحال إلى المعاش. قال مخاطباً الرجل:
- أول شيء، يا أخ، أنت تعتبرنا كومة حجارة، فلو كنت ترانا بشراً لقلتَ لنا مرحبا، أو السلام عليكم، وبعدها يصبح من حقك أن توبخنا وحتى أن تبصق في وجوهنا! وثانياً؛ أنت يحق لك أن تحكي معنا ضمن القانون والنظام، فقط، وأي كلام غير ذلك مرفوض. وثالثاً؛ وهذا الأهم، يجب عليك أن تعرفنا بنفسك. من أنت؟
قال الرجل: أنا اسمي سطام العلي، أتكلم معكم بصفتي رئيس قسم الإحصاء.
أنا، وقتها، انفرجت أساريري، لاحظ الرجل ذلك فاعتقد أنني سررت بوجوده. اتجه نحوي، وقال: أنت، ما طبيعة عملك هنا؟
قلت له: لا شيء. أنا دَرَّاب.
- كيف دراب؟ لم أفهم.
- في البرية، حينما يمر شخص في الليل، نسأله: أنت من؟ فيقول أنا دراب. أي أنه عابر درب. 55 يوماً فقط، وينتهي عقدي ولن تروا وجهي بعدها. المهم الآن، أنا أريد أن أخبرك بشيء.
- ما هو؟
- أختك، يعني زوجتي، ولدت لي صبياً حلواً مثل سيادتك. وكنت أبحث له عن اسم. والآن اهتديت إليه. سأسميه "سطام" وأجري على الله.
وقد أسميته سطام بالفعل.
(للسالفة تتمة)