ابن المقرودة.. لا يبيع أمه

10 ديسمبر 2016
+ الخط -



يتمتع صديقي أبو الجود بحس وطني عال لا يستطيع أحد التشكيك به، ولكنه- مع ذلك - في أيام المناسبات الوطنية والقومية والنضالية، يهرب من حضور الأمسيات الشعرية والندوات والمهرجانات الخطابية.

لا تتخيل أنه يغافل الحاضرين وينسل خارجاً من الباب مثل النسناس؛ فالحقيقة أنه يهرب مثل شخص يُفَاجأ وسط زحمة السوق بمن يُعلم الحاضرين بوجود قنبلة ستنفجر بعد قليل، فتراه يركض ويتلفت إلى الخلف، وصوت لهاثه يطنّ في أذنه موحياً له وكأن شخصاً آخر يركض في إثره.


قلت له: بصراحة يا أبا الجود أنا أرى في فعلك هذا مبالغة. لماذا تهرب بهذه الطريقة؟


قال: لاعتقادي الجازم الذي لا يداخله الشك بأن الكذب في هذه المناسبات يصل إلى محازم الخيل، وأن المنافقين يستغلون هذه المناسبات ليرفعوا من وتيرة إلقاء الخطابات الإنشائية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وأن البحث عن إنسان صادق وسط هذه المعمعة يشبه البحث عن إبرة رفيعة في جوف بيدر من القش.

سحب أبو الجود نفساً عميقاً، وأضاف:

- تخيل، يا سيد أبو مرداس، كنت مسافراً في إحدى حافلات النقل العام، وكان مرافق الحافلة يقلب المحطات الإذاعية، وفجأة توقف عند محطة فيها رجل لا أعرف من هو، كان يتحدث بصوت رجراج ويرقّصه (أعني صوتَه) وكأنه بهلوان في السيرك! ويقول محاولاً رفع الحالة الوطنية عند المستمعين:

- انظروا يا إخوتي الأكارم، يا أحفاد خالد وحسن الخراط وعقيل السقاطي.. انظروا كم هو عظيم الشعور الوطني عند شاعرنا الزجال الذي قال: "يا ولد يا ابن المكرودة - بيع أمك واشتري بارودة".


وأنتم، يا إخوتي الأكارم، تعرفون منزلة الأم، وتعرفون أن رسولنا (ص) قد وضع الجنة كلها تحت قدميها، ومع ذلك حينما يتعرض الوطن للخطر، فإن على الإنسان أن يبيعها ويشتري بثمنها بارودة!


قلت لأبي الجود: وما يزعجك أنت من هذا؟


قال: يزعجني هذا كله. يا رجل، ما هذا الخلط؟ إنه أولاً يخاطب الرجل الذي يحضه على الدفاع عن الوطن بكلمة (ولد).. وهذه كلمة تنطوي على كثير من الاستخفاف.. ثم، وبمجرد ما يذكر كلمة (يا ابن الـ.. )، يتبادر إلى ذهنك أنه سيسبه. وهو يسبه بالفعل حينما يقول له: يا ابن المكرودة! وأصلها (المقرودة) أي المصابة بالقراد، وهو العلق الذي يمتص دم الدابة! ثم يصل إلى العبارة الأكثر إزعاجاً وتنفيراً حينما يقول له: (بيع أمك!). معقولة يا أستاذ؟ أناشدك بالله، ويدي على رأسك، الأم، التي تمكث جنة الخلد تحت قدميها... تباع؟! ثم كيف تباع؟ وبكم تباع إذا كانت مصابة بالقراد؟ ولماذا هذه المزاودة الرخيصة على الإنسان حينما يقول له الزجال الفهيم: بيع أمك واشتري بارودة! ثم يؤكد على المعنى بقوله: البارودة أغلى من أمك!


لماذا تكون البارودة أغلى من الأم؟ ولماذا المقارنة بينهما أصلاً؟

انتابني شعور بالحيرة وأنا أسمع هذه الوصلة من صديقي أبي الجود، فقد وجدت أن كلامه منطقي جداً، رغم أن أهزوجة (يا ولد يا ابن المكرودة) معششة في وجداننا منذ زمن بعيد.


قلت لأبي الجود: حسناً، برأيك، ما الذي ينبغي على هذا الزجال قوله بدلاً من هذا الكلام؟


قال: أنا لو كنت مكانه لخاطبت المواطن المدعو إلى الدفاع عن وطنه بالكلام التالي:

- يا رجل، يا سيد الرجال، يا شريف، يا محترم، يا أيها البار بوالديه، إن الدفاع عن الوطن واجب كبير، ولا بأس عليك إن أنت وفرت بعض مالك واشتريت به بارودة، فهي نافعة لك في أيام الحرب والدفاع عن الوطن، وهي تشعرك بالاطمئنان أيام السلم، ولا بد أن أمك العظيمة سترضى عليك حينما تراك شجاعاً تحمل بارودتك وتنافح عن بلدك!

وأضاف منتصراً: هكذا يتحدث الناس. ومن العيب أن يقولوا: بيع أمك!

 

 

دلالات
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...