أكلُ الخيول على قد أفعالها
سيرة الظرفاء (6)
قلت لأبو سعيد إن سيرة الرجال الشرهين للطعام مغرية، بدليل أن كل إنسان تلتقي به، وتفتح له هذه السيرة، يحكي لك واحدة أو اثنتين من القصص المتداولة بهذا الشأن.
حدثني صديق من قرية البلاطة، بأن واحداً من قريته كان يتوقف عن تناول الطعام في حالة واحدة، وهي أنه، بعدما يطحن الأخضر واليابس مما يأتي أمامه على السفرة، يشعر بوجع في عضلات فكيه، ويصبح مضغُه المزيدَ من الطعام مؤلماً، فيضطر للتوقف.
ضحك أبو سعيد، وقال: هل تعرف حكاية الشيخ عبدو قيطانة يوم اصطحب معه ابنَه "كمال" إلى وليمة عامرة؟
- لا والله. أسمعني إياها.
- كان صاحب الوليمة، أبو خير الدين، رجلاً كريماً، حسنَ المعشر، ولأن أموره المادية مستريحة، فقد كان يدعو عدداً من رجال المدينة مرة كل شهر، ويتقصد أن يكون بين المدعوين رجالٌ ظرفاء، مثل الشيخ عبدو قيطانة الذي اشتهر عنه أنه يحمل أثناء البلع منديلاً، لأن جبينه يتعرق باستمرار. المهم؛ استغل الشيخ عبدو حالةَ الكرم العالية الموجودة لدى أبو خير الدين، وقرر اصطحاب ابنه كمال معه، ولأنه كان واعياً لأموره، فقد طلب من كمال أن يمتنع عن تناول الطعام طوال النهار، لكي يتمكن من التهام أكبر كمية ممكنة من الطعام أثناء الوليمة. ولكن كمال أبلغه، خلال النهار، أنه جائع جداً، ولا يستطيع الصبر حتى ذلك الموعد، فنصحه بأن يذهب إلى دكان الحارة، ويشتري "علكة"، ويعلكها، فهي تحقق أمرين، الأول أنها توحي للمرء بأنه يأكل، والثاني؛ أنه عندما يمتص حلاوتَها يشعر بنوع من الشبع الخلبي.. ولكي يكسب موافقة كمال على المقترح، راح يحكي له عما تحتويه الولائم، عادة، من كراديش لحم، وأرز، وفريكة فوقها لحمٌ مفروم مقلي مع اللوز والصنوبر، بالإضافة إلى الحلويات التي تشهي القلب، وتُفرح الفؤاد.
قلت: لولا الحياء، لكتب الشيخ عبدو قيطانة شعراً في مديح الوليمة المرتقبة، وألقاه على مسامع ابنه.
- نعم، وقد تمكن من إقناعه بالصوم حتى حل ذلك الموعد البعيد، وحينما ذهبا إلى دار أبو خير الدين، ووُضِعَ الطعامُ أمام الضيوف، وباشروا بالتهامه، شعر كمال بالامتنان لوالده، فنصيحتُه كانت قَيّمة بالفعل، والشيخ عبدو كان ينظر إلى كمال بطرف عينه، ويغتبط لرؤيته وهو مستبسل بتناول الأطعمة.. ولكن أمراً غريباً حصل أثناء ذلك: فكمال توقف، ومد يده لتناول كأس الماء، فأمسك والدُه يده ليمنعه من ذلك، وسأله بصوت هامس:
- أيش تعمل؟
- بودي أشرب ماء.
- غلط يا ابني، غلط، الماء يصدُّ النفس عن الطعام.
- ولكنني عطشان.
- وأنا مثلك، عطشان، ولكن هذا الأمر، أعني شرب الماء، يمكن أن نقوم به بعد عودتنا إلى الدار، فبحمد الله تعالى عندنا ثلاث آبار مليئة بالماء!
قلت: هل تعلم يا أبو سعيد؟ الحديث عن الظرفاء الشرهين، يستدعي الحديث عن أناس يأكلون القليل من الطعام، يعني الحالة المعاكسة.. فالرجال الشرهون يصفون الرجل الذي لا يأكل كثيراً بأنه (سَمْبَتيك)، وعندما يختلط الرجل السمبتيك بالشرهين تحصل مواقف مضحكة أيضاً. ومما رواه الأديب المحامي المرحوم نجاة قصاب حسن، أن طبيباً عاش في زمن قديم، دُعي إلى وليمة دسمة، وهو معتاد على طعام معين، يتألف من الخضار واللحم المسلوق الخالي من الدهن، وحتى الفواكه، فهو ينتقي منها الأنواع التي تكون نسبة السكريات فيه منخفضة، كيلا تتحول، خلال الهضم، إلى شحوم ثلاثية وكولسترول.. وكان الناسُ، في تلك الأيام الغابرة، يسافرون على ظهور الخيل، والطبيب ذهب إلى مكان الوليمة على ظهر حصانه، وعندما وصل رحب به أصحاب الدار، وأخذوا منه الحصان، ووضعوه في الزريبة، ووضعوا أمامه علفاً كثيراً، وأما هو فصحبوه إلى المضافة، حيث تمتد سفرة كبيرة، عامرة بالأطايب. وهنا وقع الطبيب في أزمة، ملخصها أن هذه الأطعمة الدسمة، لا تناسب معدته، فصار يتحايل على الأمر بأخذ حبات قليلة من البرغل، وتجنب كراديش اللحم، وهذا ما لفت نظر المضيف (المعزب)، فانطلق نحوه وصار يرجوه أن يأكل، وسارع بعض الموجودين إلى نقل بعض كراديش اللحم إلى حيث يجلس، وكثرت عليه الدعوات والتوسلات، فقال الأول:
- كرمى لخاطري، بس هالقطعة.
والثاني: علي الجيرة إلا تأكل هذه الشقفة.
والثالث: أكل الرجال على قد أفعالها، وأنت دكتور، ما شاء الله عليك، أفعالك رائعة.
وكان المسكين يخجل منهم، ويأكل، ظل يأكل حتى كاد أن يتمزق. المهم؛ انتهت السهرة، ومشى صاحبنا الطبيب إلى الزريبة، ليفك حصانه، ويأخذه، فوجده متوقفاً عن تناول العلف.
روى صاحب الدار، فيما بعد، أنه شاهد الطبيب يقول للحصان:
- كول كمان، كرمى لخاطري.
ويحاول تقريب فم الحصان من العلف، ولكن الحصان لا يستجيب، فيقول له:
- علي الجيرة إلا تأكل. أكل الخيل على قد أفعالها. يا الله حبيبي، بس هالكمشة التبن. جيرة.
ولما عجز عن إرغامه على أكل المزيد قال له: أنت أفهم مني بكثير!
- حكاية رائعة فعلاً.
- وكان لدينا في إدلب رجل، يقال له "أبو لطفي"، عاش مائة سنة، ولم يتجاوز وزنه، طوال عمره، ستين كيلو، والسبب أن شهيته للطعام كانت في الحدود الدنيا، وإذا فتحنا سيرته قد تستغرق معنا وقتاً طويلاً، ولكنني أتذكر، هنا، الشاعر المصري الكبير أحمد فؤاد نجم، الذي قال، في مقابلة تلفزيونية، أنه ينسى نفسه دون طعام زمناً قد يتجاوز اليومين، ولا يأكل إلا حينما يتذكر أنه لم يأكل منذ زمن طويل، ولا شك أنك تعرف، وكذلك قراء مدونة إمتاع ومؤانسة يعرفون، أن أحمد فؤاد نجم لم يكن وزنه يزيد عن خمسين كيلو.
قال أبو سعيد: صحيح، ولكن هذا الأمر غير صحي.
- نعم، غير صحي، ولكن هذا ما حصل. على كل حال، أرجو أن نتذكر، في اتصالك القادم، فنحكي بعض حكايات أبو لطفي.