أبو مرداس وأم مرداس والجو الرومانسي
رمضان وهلالة (4)
بلغت المدام هلالة قمةَ السرور في أثناء تناولها طعام الإفطار معنا. اتصلتْ بزوجها في أمستردام وقالت له: قم اركب في أقرب قطار أنت والأولاد وتعالوا إلى إلمسهورن، صدقني حبيبي، ما في أحلى من أسرة أبو مرداس، أنا طوال عمري كنت أتساءل عن سر نجاح الأستاذ خطيب في كتابة القصص والروايات والمسلسلات، الآن فهمت القصة، إنها المرأة.. السيدة أم مرداس (وقَبَّلَتْ رؤوس أصابع يدها) سُكرة.
وبينما هلالة تتحدث مع زوجها إذ لمحتْ طيفَ ابتسامة يرتسم على وجهي، فسارعت إلى إغلاق الخط، وقالت لي: عفواً أستاذ، كلامي أضحكك؟
قلت: أي نعم.. وبالأخص كلامك عن الرواق الخاص بالسيدة أم مرداس. تذكرت الآن حكاية تعود إلى أكثر من ثلاثين سنة. كان عندي صديق، فنان تشكيلي رائع، تزوج امرأة طيبة ومحترمة، ولكنها، بزعمه، لا تقدّر الفن الرفيع. كان يحتفظ في جيبه بصورة فوتوكوبي من حوار مع الموسيقار محمد عبد الوهاب، يقول فيه إن امرأة الفنان الرائعة هي التي تعرف متى يجب أن تبتعد عنه، ومتى تقترب منه، ومتى تُشعره بحبها. وكان صديقي الفنان يقرأ لي هذه الفقرة ويقول: الله وكيلك يا أبو مرداس زوجتي عكس المرأة التي حكى عنها عبد الوهاب بـ 180 درجة.
ولكي يقنعني بوجهة نظره، قال: أكون أنا مستغرقاً في رسم لوحة، فتأتي هي بصحن مليء بالخيار أو الجَزَر أو الجانرك، وتجلس في أقرب مكان مني، وتقرط الخيارة أو الجزرة بجوار أذني تماماً. وإذا أرادتْ أن تدردش معي، فإنها تقول لي، بعد صمت طويل: اليوم أمي بودها تطبخ محشي قَرع. وتسكت ربع ساعة أخرى وتسألني: على علمك نزلت الفليفلة الحسكورية إلى السوق؟ وتبدأ حديثاً مطولاً عن فوائد الفليفلة بشكل عام، والحسكورية بشكل خاص.
ضحكت هلالة وقالت: واضح أن حالة صديقك الفنان وزوجته طريفة. ولكن ما علاقة هذا بكلامي عن الست أم مرداس؟
قلت: العلاقة بين الحالتين وطيدة. ولعلمك، إن البطلة الحقيقية لهذه القصة هي أم مرداس نفسها. فلكي يروض صديقي الفنان زوجتَه التي تأكل الخس والكعك والجانرك بجوار أذنه، جعل من أم مرداس "وسيلة إيضاح". كان يقول لزوجته: أنت طبعاً تعرفين الكاتب الشهير خطيب بدلة.
ضحكت هلالة طويلاً وقالت لأم مرداس: أنا أعتذر لأنني ضحكت. ولكنك أنت التي شجعتِني على الضحك
فتتابع هي قرط الجانرك بصوت مرتفع، وتقول له: لأ. ما بعرفه.
فيقول لها: يا بنت الحلال هذا كاتب رائع.
فتقول له: إذا كان رائع أو طاكع، أنا أشو دخلني؟
ووقتها يترك الريشة ويقوم، يأخذ من يدها صحن الجانرك، ويرغمها على الإصغاء إلى تتمة الحكاية؛ وهي أن خطيب بدلة كاتب رائع لأن زوجته، أم مرداس، عندما يجلس إلى المنضدة ليكتب، تحوّل البيت إلى ما يشبه قاعة المطالعة، إذا ألقيتِ الإبرةَ على الأرض تسمعين لها رنة. أول شيء تفعله، تذهب إلى المطبخ، تُحَضّر له فنجان قهوة بلا سكر، وتأتي إليه وتضعه أمامه برفق. ولعلمك، هذه السيدة، عندما تكون في المنزل، تنتعل حذاءً ذا أرضية إسفنجية، لأنه ليس من اللائق أن تمشي المرأة و(تطشّ) برجليها على الأرض.. وبعد تحضير القهوة، تأخذ الأولاد إلى الشارع، حيث توجد بالقرب منهم حديقة غنّاء، اسمها حديقة الجلاء، تتركهم يلعبون فيها، وتعود إلى البيت، وتجلس في مكان بعيد نسبياً عن زوجها، وتبقى عيناها متعلقتين به، فلربما احتاج شيئاً على حين غرة!
مرة أخرى تدخلت هلالة، وقالت: أنا أوافق صديقك على كلامه، فأم مرداس، برأيي، مثلما وصفها وأكثر.
قلت: ليس المهم أن يقتنع صديقي، أو أن تقتنعي أنت يا مدام هلالة، أو أقتنع أنا بأن أم مرداس إنسانة عظيمة، كان المهم أن تقتنع زوجته، وتتعلم منها كيف تصنع جواً رومانتيكياً لزوجها الفنان المبدع.. ولكن عبث؛ بقيت تلك الإنسانة محافظة على ثلاث عادات رئيسية، هي (القعقعة بالأبواب والشبابيك بدون مناسبة، الطش بالشحاطة البلاستيكية ماركة زنوبة على الأرض، قَرْط الخضار الصلبة بلا تحفظ بجوار أذنه).. دواليك حتى طقت الشغلة برأسه، فأحضرها معه لزيارتنا في إدلب، ليريها الجو الرومانسي الذي تهيئه أم مرداس من كثب.
ولكن، وبمصادفة غير سارّة على الإطلاق، كانت السيدة أم مرداس تعزّل البيت، وفي يوم التعزيل تتحول هذه الإنسانة الرائقة إلى لبوة جارحة. كانت مياه الشطف والتعزيل واصلة إلى محازم الخيل، وهي تصرخ بالأولاد لكي يبتعدوا عن مجرى الماء، وعندما يعاندونها تدير عليهم فوهة النربيش وترشهم وهي تولول حتى يصل صوتُها إلى دكان "أبو سليم معدل"، وأنا كنت، قبل أن تبدأ الحوسة، أبدع قصة، أو مسلسلاً، أو مقالة، ما عدت أذكر بالضبط، ودخلت عليَّ فجأة والمياه تشرشر من ثيابها، وأمسكت الورقة التي كنت أكتب عليها، وقلبتها على قفاها، ونتشت القلم من يدي، ورمته على الطاولة، وقالت لي: راح أعد إلى الثلاثة، وبعدها ستكون أنت وسعادينك الذين بَذَرْتَهم خارج الدار. عم تفهم؟
وكان لا بد لي من الامتثال بالطبع، فسحبت الأولاد، وفتحت الباب لنخرج، وإذا بصديقي الفنان مع زوجته. بهتُّ عندما رأيتهما. وهو قال لي: خير أبو مرداس، سمعنا صوت ولاويل. أشو القصة؟
ضحكت هلالة طويلاً، وقالت لأم مرداس: أنا أعتذر لأنني ضحكت. ولكنك أنت التي شجعتِني على الضحك، فطوال ما كان أبو مرداس يحكي القصة، لم تتوقفي عن الضحك. أأفهم من ذلك أنك معتادة عليه وهو يؤلف عنك قصصاً كهذه؟
قالت أم مرداس: من قال لك إنه ألفها؟ صدقيني القصة واقعية!