أبو سليمان الطوط والمرأة "المقلَّنة"

24 يونيو 2024
+ الخط -

(سيرة الظرفاء 11)

قال أبو سعيد، في اتصال البارحة، إنه استمتع كثيراً بما تداولناه، في اتصالاتنا السابقة، حول ظرفاء مدينة إدلب، وأجملهم، بلا شك، أبو لطفي الداروجة، الذي كان يلقب بـ أبو لطفي السَمْبَتيك. وأضاف:

- وبما أننا فرغنا من سيرتهم، ما رأيك أن نتذكر بعض حكايات أبو سليمان الطوط، التي كان يرويها لنا صديقنا عبد الجواد، الملقب أبو جويّد.

قلت: أهلاً يا أبو سعيد. الحقيقة أن معلم الفكاهة والكوميديا الحقيقي هو أبو جويّد، ولولاه لما سمعنا بأبو سليمان الطوط أصلاً. أنا، مثلاً، لم ألتقِ بـ (الطوط) أبداً، ولكنني شكلتُ عنه فكرة واسعة من خلال أبو جويّد. هل تعرف أين تكمن المفارقة المضحكة؟

- أين؟

- تكمن في أن أبو جويّد فاته قطار الزواج، وأبو سليمان كان يعمل على تأمين عروس مناسبة له، دون أن يطلب منه أحدٌ ذلك! وكانت مشكلة أبو جويد واضحة كالشمس، وهي أنه لا يستطيع أن يتزوج لأن الفقر، كما يقول أهل قرية حربنوش، ناصب حواليه دبكة.. وعلى الرغم من وسامته، وسُكْرِهِ بخمر العافية (كما يغني وديع الصافي)، لم تكن أيةُ فتاة، حتى ولو كان جمالُها متواضعاً، تقبل به عريساً، لأن أهل أي عروس، عندما يتقدم أيُّ شاب لخطبة ابنتهم، يسألونه بطريقة الرَمي رشاً: ما عملك؟ كم دخلك؟ هل لديك دار تسكنها؟ وإذا زوجناك ابنتنا ماذا ستأكلان؟ وإذا خلفتما أولاداً كيف ستربيانهم، وترعيانهم؟ هذه الأسئلة كانت توجه لأبو جويد، عندما يخطب فتاة ما، فيخرس، ويتبلجم، ويجيب عن بعضها برفع رأسه إلى الأعلى، وعن بعضها الآخر بخفض رأسه إلى الأسفل، كما لو أنه أخرس. 

خلال الاتصال، أوغلنا، أنا وأبو سعيد، في مناقشة هذه المسألة، وقال أبو سعيد إنه، ذات مرة، وجّه سؤالاً لأبو جويّد، عن سبب بقائه أعزب، وهو في سن الـ 35، فضحك وقال له، بطريقته التهكمية المحببة؛ إن والده الذي يُفترض به أن يزوجه، توفي من زمان، ولذلك صار يعتمد على جاره في الحارة العم "أبو سليمان الطوط"، ولكن أبو سليمان مقصر معه، لا يسعى لتزويجه!

قلت: عنصر الفكاهة؛ كما أراه، يتلخص في أن أبو سليمان يعلم علمَ اليقين أن أحوال أبو جويد المادية تعيسة، ومع ذلك كان يراهن على أنه يستطيع العثور على عروس مناسبة له. وذات مرة، التقاه في زاروب حَمَّام المحمودية، في الحارة الشمالية، فاستوقفه، وقال له وهو يضحك، وجسدُه يرتجَّ مثل سطح صينية الهيطلية:

- أنا أفكر بوضعك من زمان، وطلع معي أن الأحسن أن نأخذ لك امرأة "مقَلَّنة"!

استغرب أبو سعيد، وقال: مقلَّنة؟ أنا أعرف أن مَن يذهب لشراء أي نوع من الأدوات، أو الماكينات، يسأل البائع: جديدة من الوكالة أم مقلَّنة (أي: مستعملة)؟ ولكننا هنا نتحدث عن عروس، لا عن ماكينة.

- أنا، كما تعلم يا أبو سعيد، أكنُّ كل الاحترام للمرأة، سواء أكانت بنتاً بكراً، أو مطلقة، ولكن، بما أننا ننقل الكلام عن أبو سليمان الطوط، فمن واجبنا أن ننقله كما هو، وبكل أمانة. المهم، قال أبو سليمان لأبو جويّد:

- صحيح أنك منحوس، ومعثر، ولكن حظك، هذه المرة جالس.

- بجد؟ كيف؟

- عثرت لك على امرأة تناسبك (حَفْر وتَنْزيل). صحيح هي (مقلنة)، وعلى نصف عمرها، ولكن إذا شاهدتَها وهي قادمة من بعيد، ستفتح شدقك على مصراعيه، من فرط جمال قوامها النعناعي، ومشيتها الغزلانية، وهي منقبة، ولكن، إذا كَشَفَتْ لك عن وجهها، لا بد أن تنكسر 75 فقرة من (سرسبة) ظهرك عدا الفراطة!  

رد أبو جويد على أبو سليمان بالسؤال الذهبي: وهل ترضى هذه المستورة، ذات القوام النعناعي والمشية الغزلانية التي تكسر بجمالها سرسبةَ الظهر، أن يتزوجها واحد مفلس (وأندبوري ومشلّط) مثلي؟

غضب أبو سليمان، وقال: اسكت ولاك. لا تخبّصْ بالحكي. أنت صحيح طفران ومشلط وعايف رد السلام، ولكنك، ما شاء الله، شاب، بحجم الكديش، إذا ربطناك بشجرة توت وأجْفَلْناك تقلعها وتركض بها. يا أخي هذه المستورة (المقلنة)، أين تلاقي واحداً في مثل جمالك وشبوبيتك؟   

وعلى الرغم من أنهما كانا وحيدين في الزقاق، راح أبو سليمان يخفض صوته، ويقترب من أبو جويد كمن يريد أن يفضي له بسر خطير، وقال له:

- المرأة المقلنة، يا "طشم"، أحسن من المرأة الطالعة "من الوكالة"! هذه المرأة، لعلمك، تزوجت قبل حوالي سنة، وكانت مبسوطة مع زوجها، ولكن بعد ستة أشهر فقط، مات، وترملت.. وهناك مثل يقول: عزباء دهر، ولا أرملة شهر، ومثل آخر يقول: ظل رجل ولا ظل حيط. وبصراحة؟ الرأسمال الحقيقي لشاب مثلك هو شبابه، فلو خُيِّرَتْ هذه المستورة، بين رجل ختيار مصوفن، مثلي، معه مال وذهب وعمارات، وشاب يقلع شجرة توت، ومشحر، مثلك، مَن تختار؟

- تختار المصوفن، مثلك، على الأقل عنده دار تؤويه، ولقمة طعام، وفي جيبه نقود. 

عندما وصلت في سرد القصة إلى هذه النقطة، ضحك أبو سعيد وقال:

- أنا لم أفهم، هذا أبو سليمان الطوط، يريد أن يخدم أبو جويد ويزوجه، أم يوبخه ويبهدله؟

- يمكنك، من خلال هذا التناقض، أن تعثر على الجانب المضحك في تلك الصحبة العجيبة بين الرجلين. والأحلى من هذا، أن أبو جويد كان يمثّل على أبو سليمان دور المقتنع بخططه ومشاريعه. لذلك، عندما رأى الانزعاج على وجه أبو سليمان، استدرك، فقال: بل تختارني أنا. ويا سيدي، أنا من جهتي موافق، وأتمنى منك أن تضع كل ثقلك، وتذهب وتطلبها لي، وأنا سأعد الدقائق والساعات في انتظار أن تأتيني بالبشرى.

تتمة الحكاية أن الصديقين افترقا، على خيرة الله، وأبو جويد، من جهته، نسي الموضوع، ليقينه بأنه لا توجد امرأة عاقلة يمكن أن ترضى به وهو في هذا الحال من الفقر والعوز والتشرد. ولكن الغريب في الأمر، أن أبو سليمان قرع بابه، بعد أسبوعين من هذا التاريخ، وقال له: البشارة عندك. المستورة وافقت.

وهنا بدأ أبو جويد يتبارد عليه: مستورة؟ أي مستورة؟

- السيدة المقلنة التي حكيت لك عنها.

- وافقت على أيش؟

عرف أبو سليمان أن أبو جويد يتبارد عليه، فدفعه إلى الداخل، وقال له: تضرب في موديلك. اعمل لي كأساً من الشاي، وتعال لأحكي لك ما جرى بالتفصيل.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...