أبو سطام والفلسفة الحَلَمَنْتيشية
القسم الأكبر من أهالي إدلب، كانوا يصنفون صديقي "أحمد خالد الوعل" بأنه رجل غريب الأطوار، وزادت قناعتُهم بذلك عندما أطلق على ولده البكر اسم "سطام"، فهذا الاسم شائع في البوادي، وبعض القرى، ولكنه غير متداول في مدينة إدلب.. وأنا، كذلك، لفت انتباهي هذا الاسم، وبعد أن توطدت الصداقة بيننا، سألته عنه، فقص عليّ حكايةَ عقد العمل المؤقت الذي حصل عليه في مديرية الزراعة.
رويت لحضراتكم، في التدوينة السابقة، أن مدير الزراعة أرسل أبو سطام للعمل في قسم الإحصاء، هذا القسم لا ينتج أي عمل، بل ويمكن الاستغناء عنه، بدليل أنه أمضى ثلاثةَ الأسابيع الأولى، دون أن يَطلب منه أحد القيام بأي عمل، ثم فوجئ هو، والموظفون الآخرون، برجل يشبه الملاكم، أو المصارع، ذي وجه مكفهر، وشعر متناثر على غير هدى، وشاربين نازلين إلى حدود ذقنه، يدخل عليهم، معلناً أنه رئيس قسم الإحصاء الجديد، سألوه عن اسمه فقال: سطام. والأمر المفاجئ أن صديقي أعجب بالاسم، وأطلقه على ابنه البكر المولود حديثاً، ومن وقتها اشتهر بلقب أبو سطام.
قلت له: في قصتك تناقض واضح يا أبو سطام، أنت أخبرتني أن هيئة ذلك الرجل المدعو "سطام" كاريكاتيرية، وطباعه سيئة للغاية، فكان واجباً عليك أن تنفر منه، لا أن تسمي ابنك باسمه.
- معك كل الحق، يا أبو مرداس، ولكنني، في تلك الأيام، كنت مولعاً بالفلسفة الحلمنتيشية، والابتعاد ما أمكن عن العادات والتقاليد وكل ما هو سائد في المجتمع، فحدثتُ نفسي بأن ابني سيعيش حياة فقيرة، تافهة، في دار عربية ذات حيطان عتيقة آيلة للسقوط، برعاية أب عاطل عن العمل، فإذا كبر، وأصبحت شخصيته مكركبة، يكون الاسمُ مناسباً لشخصيته، وإذا نبغ، وتمكن من النصب والاحتيال على الناس، وجَمَع ثروة طائلة، وصار الناس يخطبون وده، ويتمنون الكلام معه ولو بجملتين، يصبح اسم سطام جميلاً، ومحبباً، وأنا لا أستبعد أن يُعْرَفَ، حينئذ، باسم سطام آغا، أو سطام بيك، أو سطام باشا، وأما والدُه، أنا، فقد استفدت كثيراً من إطلاق هذا الاسم عليه.
- بالله؟ ماذا استفدت؟
- استطعت تأديب رجل كنت أسمع عنه أنه حشري، وقليل ذوق، هو أبو محمود مسؤول قسم الولادات في دائرة النفوس.
- أدبته؟ كيف؟
- يا سيدي، ذهبت إلى دائرة النفوس، وملأت البيان العائلي، سجلتُ فيه اسم المولود (سطام بن أحمد الوعل). وكان المفروض بالسيد أبو محمود أن يفتح دفتره، ويسجل الاسم في خانتي، بفم ساكت، ولكنه مزق ورقة البيان العائلي، وناولني ورقة جديدة، وقلماً، وقال لي:
- ما هذا الاسم الغريب؟ يا رجل، هل ضاقت عليك الدنيا حتى تسمي ابنك سطام؟ خذ، سجله باسم والدك، خالد، أو سمه عبد الله، أو محمد علي.
دهشت. قلت له: انتظر لحظة، أخي أبو محمود. دعني أذهب إلى البيت، وأحضر لك الطفل الوليد ووالدتَه، أسلمك إياهما وأغادر.
- تسلمني إياهما؟ أنا أيش علاقتي بهما؟
- وتسأل؟ أليست المرأة زوجتك، والطفل ابنك؟
- ما هذا الكلام؟ بأي حق أنا آخذ امرأتك وطفلك؟
- ها هاه. هذا هو السؤال الصحيح. إذا لم يكونا امرأتك وطفلك، فبأي حق أنت تسمي الطفل؟!
ضحكت وقلت له: يحرق حريشك يا أبو سطام. مؤكد أن أبو محمود ذاب خجلاً.
- أنت يا أبو مرداس قلبك طيب، تعتقد أنه يخجل. يا رجل والله إن وجهه مصنوع من البلاط. تصور، بعد كل هذا لم يسكت. فتح دفتره، وراح يبربر بكلام غاضب. صار يقول ما معناه أن الرجل العربي الحر، في قديم الزمان، إذا قدم لرجل حر مثله نصيحة، يعطيه بدلاً منها جملاً. ولذلك غنى المطرب:
كانت النصيحة بجمل
عند العرب وزمام
هل تعرف بماذا رددت عليه؟
- بماذا؟
- قلت له: العرب، يا سيد أبو محمود، كانوا يعيشون في الصحراء، لذلك كانوا يبادلون النصائح بالجِمَال، أما أنت، فدارُك، بحسب علمي، في الطابق الرابع بحي الضَبّيط، إذا أعطيتُك جملاً كيف ستُصعده إلى الدار؟ وإذا تمكنتَ من إصعاده، بالرافعة مثلاً، ووضعته في غرفة خاصة، ألا تخاف أن تهوي الأرض تحته، من فرط ثقله، ويسقط على الجيران؟ وإذا تضرر الجيران من جراء سقوط جَمَلك عليهم، هل يسكتون؟ أم يشتكون عليك ويجرجرونك إلى المحاكم؟
المهم. تمكن صديقي أحمد الوعل من تسمية ابنه سطام. وأما موظف النفوس، أبو محمود، فبدا حانقاً عليه، لأنه ربما كان الشخص الوحيد الذي أصر على تسمية ابنه على كيفه، فقد عُرف عن السيد أبو محمود تدخلُه الفضولي في أسماء أهالي المدينة، فإذا جاء رجل يريد أن يسمي ابنه شادي، أو جميل، أو كمال، يسجله محمد شادي، أو أحمد جميل، أو مصطفى كمال..
قلت له: طيب يا أبو سطام. أعترف لك بأن هذه الفقرة من حديثك جميلة جداً. ولكن؛ أنت لم تكمل لي حكاية "سطام" الأصلي، مدير قسم الإحصاء في مديرية الزراعة.
- أثبت لنا السيد سطام، بالدليل القاطع، أن بقاء قسم الإحصاء بدون مدير، وإصرار موظفيه على شرب الشاي، وأكل قضوضات الزيت والزعتر، والتحدث في أنساب أهل البلد، أفضل بكثير من وجوده على رأس القسم، وأقل تكلفة.. فأول أمر أصدره لنا، وطلب منا تنفيذه في العجل، هو إجراء إحصائية عاجلة للفلاحين الذين يشربون الماء في البراري من القِلْد.
- أف. وما هو القلد؟
- عندما يكون الرجل ماشياً في البراري، لا بد أن يعطش، فيذهب من توه إلى المناطق الصخرية، حيث لا بد أن يعثر على جورة صغيرة، محفورة في الصخر، يتجمع فيها ماءُ المطر، هذه الجورة يسميها الرعيان والفلاحون (القلد)، ولأنه لا يمتلك كأساً، أو طاسة، ينبطح على الأرض، مستنداً إلى يديه وقدميه، مثل الرياضي الذي يُجري تمارين ضغط، ويمط بوزه حتى يلامس سطحَ الماء، ويغبّ حتى يرتوي.
ملاحظة: روى لي أبو سطام تفاصيل الجولة الإحصائية التي قاموا بها، سأعرضها عليكم في التدوينة القادمة.