أبو خربوش في عيادة الطبيب فيكتور
انتبه صديقي أبو سعيد، بذكائه الباهر، إلى أنني أحب شخصية الفتى الأهبل الكذاب أبو خربوش. عندما اتصل بي، البارحة، أخبرني بذلك، فقلت له:
- طبعاً، أنا أحبه، وأتعاطف معه، وأحترمه، بل وأعتبره صديقي، وكنت أبلغ ذروة الفرح حينما أصادفه في أحد شوارع مدينة إدلب، أو في البازار، ويقول لي تلك الجملة الشهيرة: حاجتك بقى أبو مرداس.. مفكر حالك كاتب ومصدّق نفسك؟ أين كنت أنت لما أنا كنت أكتب مقالات وأنشرها في الجرايد؟
محبتي لأبو خربوش، يا أبو سعيد، لها أسباب عديدة، أولها أنه موضوع دسم للكتابة، فلو أردتُ، أنا محسوبك، أن أكتب قصة عن شاب طبيعي، عاقل، متوازن، مهذب، صادق، لحصلتُ على قصة غبية، فاشلة، وأما القصص التي أرويها عنه، فمؤكد أنها جذابة ومثيرة. وثانيها أنه "موديل أدبي" ممتاز، فليس من الضروري أن أنقل إحدى حكاياته التي يتداولها الناس كما هي، بل أستطيع أن أؤلف قصصاً على منوالها، وأنسبها إليه، وغالباً ما تكون القصص التي أؤلفها أجمل من تلك المتداولة، وأكثر طرافة، وأنا أرى أن الظروف الاجتماعية التي عاشها أبو خربوش هي التي شكلت شخصيته على هذا النحو، فلو كان مولوداً في مدينة أخرى غير إدلب، لأبوين آخرين، وعاش بين أناس آخرين، لكان مختلفاً عما هو عليه.. وأبو خربوش، أخيراً، هو من الشخصيات التي تَخلق في المجتمع نوعاً من التجاذُب، والمرح، فكثير من الناس يتسلون بحكاياته، يتناقلونها، ويزيدون عليها، وآخرون يتقربون منه، ويستثيرون مكامن الفكاهة عنده لكي يستمتعوا بردود أفعاله المضحكة.
أصلاً هو لا يحب العمل، ويفضل أن يبقى سارحاً في الأزقة، والساحات، يتجمع حوله الأولاد، ويكذب عليهم، وهم يتظاهرون بأنهم يصدقون أكاذيبه
ولعلمك، يا أبو سعيد، هناك قصة عن أبو خربوش أنا أراها أحلى من قصة المخرطة التي رويتُها لك في المرة السابقة، وأكثر غرابة. هل تعرف لماذا؟
- لماذا؟
- لأن إقدامه على ثَقب فردتي جاروخه بجهاز الثقب في المخرطة، كان نتيجة طبيعية لمراقبته عملَ المخرطة خلال أيام، ولكن كم هو جميل وطريف أن يدَّعي واحد مثله أنه يفهم في الطب، وهو لم يدرس الطب، ولم يقرأ عنه، ولا يعرف منه شيئاً؟
- أظنك ستروي قصته مع الدكتور فيكتور.
- نعم. وهذه القصة اشتهرت حتى إنها وصلت إلى أستاذي حسيب كيالي في مكان إقامته بمدينة دبي، سنة 1991، فكتبها ونشرها في مجموعته القصصية الأخيرة "نعيمة زعفران".
- جميل. وبما أنني لم أقرأ مجموعة الأستاذ حسيب، أريد أن أسمع القصة منك الآن.
- الفتى مجيد، الملقب "أبو خربوش" لم يكن يختار الأشخاص الذين يعمل لديهم بنفسه، بل كان يعمل في المكان الذي يختاره له أبوه. أصلاً هو لا يحب العمل، ويفضل أن يبقى سارحاً في الأزقة، والساحات، يتجمع حوله الأولاد، ويكذب عليهم، وهم يتظاهرون بأنهم يصدقون أكاذيبه، فيوجهون إليه أسئلة، فيضطر لأن يخترع أكاذيب جديدة مضحكة، وهكذا.. ولكن والده، العم أبو مجيد، كان يحمل همه دائماً، وكلما طرده صاحبُ عمل، يفكر له بمعلم بديل، حتى إن أحد الظرفاء الذين يعشقون سيرته، زعم أن أبو خربوش اشتغل في 33 مهنة قبل أن يبلغ سن الشيخوخة!
- طيب. وماذا حصل بعد هذا؟
- يا سيدي؛ أبو مجيد كان متأكداً من أن ابنه، أبو خربوش، ميئوس منه، وتوظيفه عند أحد أصحاب المهن الحرة لن يعود عليه بأي نفع، ولكنه كان يصر على تشغيله، لأجل أن يبعده عن الدار 8 ساعات كل يوم، وعندما يعود إلى الدار يكون متعباً، فينام دون أن يسبب له وللسيدة أم مجيد الكثير من القهر والمتاعب.
المهم؛ في يوم من الأيام، سمع أبو مجيد من بعض أصحابه أن الطبيب فيكتور رجل طيب، ويخدم الناس، ويساعدهم، وأنه أوصى ممرضته بأن تُعفي أي زبون فقير يراجع العيادة من دفع أجور المعاينة، وهذا ما شجعه على الذهاب إليه، وبمجرد ما دخل إلى العيادة، سارع لإفهام الممرضة أنه فقير، فأعفته من الدفع، وطلبت منه أن ينتظر، ففعل، وعندما جاء دوره دخل غرفة المعاينة، وسلم على الدكتور فيكتور، وقال له:
- لستُ مريضاً، ولكن لي عندك رجاء، فهل تردني خائباً؟
- ولو يا عم أبو مجيد. تكرم عينك. ما هو الطلب؟
- أريد أن تشغّل ابني أبو خربوش عندك في العيادة!
ضحك فيكتور ضحكاً صافياً، وقال: أأنت تتكلم جاداً؟
- ولو يا حكيم، هل يعقل أن آتي إلى هنا، وآخذ من وقتك الثمين، لكي أمزح معك؟
- عفواً، ولكنني سمعت بعض القصص والحكايات عن ابنك أبو خربوش، وكلها تقول إنه لا يتقن أي عمل، ومع ذلك يزعم أنه يفهم في أمور كثيرة، وأنا، كما تعلم، طبيب مختص بالأمراض الداخلية، لذا أخشى أن يكون أبو خربوش مختصاً بشيء آخر، قلبية أو أذنية أو عينية.. فيحصل تضارب بالعمل بيننا!!
ضحك أبو مجيد لهذه الدعابة اللطيفة، وقال لفيكتور:
- دكتور، ممكن تأتي معي إلى غرفة الانتظار؟ أريد أن أقول لك شيئاً.
الفتى مجيد، الملقب "أبو خربوش" لم يكن يختار الأشخاص الذين يعمل لديهم بنفسه، بل كان يعمل في المكان الذي يختاره له أبوه
نزل فيكتور عند رغبة العم أبو مجيد، ورافقه إلى غرفة الانتظار. أبو مجيد سحبه من يده إلى زاوية من الغرفة، حيث توجد مكنسة طويلة ذات عصا، وبجوارها "فرشخانة". قال:
- اختصاص ابني أبو خربوش هذه المكنسة، وهذه الفرشخانة. والمكنسة يمكن استخدامها لغرضين؛ الأول، أن يتولى أبو خربوش تنظيف العيادة بها، والثاني هو أن تضربه بها حضرتك عندما يرتكب أي ذنب. اضربه كيفما اتفق. أنا أعرف أن قلبك رقيق ولا تحب الضرب، ولكن كرمى لخاطري اضربه، يا أخي افترض أنه جحش، هل يعقل أنك لا تضرب الجحاش أيضاً؟
عاد الدكتور فيكتور مع أبو مجيد إلى غرفة المعاينة، وهناك شرح له أنه طوال حياته لم يضرب إنساناً، ولا حتى حيواناً. قال:
- وعلى ذكر الجحش، لما كنت فتى يافعاً، طلب والدي من جارنا، عبدو مطيطة، أن يسمح لي بالركوب على جحشه. فقال له: تكرم عينك يا جاري أبو فيكتور. وأركبني على الجحش، وأعطاني عصا، ونصحه وقال لي هذه تفيدك في قيادته، إذا حرن، أو عنطز، اضربه. ولكن نفسي لم تطاوعني بضربه، وكانت النتيجة أن وقعت من على ظهره، وشج جبيني، انظر يا أبو مجيد. ما تزال الندبة التي نتجت عن تلك الوقعة موجودة في جبيني حتى الآن.
وقال فيكتور: ومع ذلك، أنت غال علي، وأنا موافق عل تشغيل أبو خربوش عندي.
(للقصة تتمة)