وداعاً "عشرة عبيد صغار"
لو كانت الكاتبة الشهيرة أغاتا كريستي (1890 - 1976) على قيد الحياة، فهل كانت ستقبل بأن يُصار إلى تغيير عنوان روايتها "عشرة عبيد صغار" التي كتبتها عام 1938 ونشرتها عام 1939 مثلما جرى أخيراً؟ الأرجح أن الجواب سيكون نعم، لأنها، عندما وجدت أن العنوان إياه، الذي لم تختره بنفسها يسيء إلى الجمهور الأميركي، لم تمانع تغييرَه ليصبح: "وفجأة، لم يتبقَّ منهم أحد" في نسخته الأميركية (1940)، وهو العنوان الذي اعتمدته الترجمتان الإيطالية والألمانية.
أخيراً، بسبب موجة "حياة السود تهمّ"، المحقّة حتما، طلب حفيدُ الكاتبة تغيير عنوان الترجمة الفرنسية التي أبقت على العنوان في صيغته البريطانية الأولى، وعمرها ثمانون عاماً، والاستعاضة عنه بالعنوان الجديد: "كانوا عشرة"، مع حذف كلمة عبد وعبيد التي ترد نحو أربع وسبعين مرة في الرواية، واستبدالها بكلمتي جندي وجنود. "علينا ألّا نستخدم بعد اليوم كلمات قد تكون جارحة"، قال جيمس بريتشارد، مدير الشركة مالكة الحقوق الأدبيّة والإعلامية لأعمال أغاثا كريستي، فصارت "جزيرة العبد" على سبيل المثال، وهي المكان المعزول الذي تدور فيه أحداث الرواية، "جزيرة الجندي"، وكذلك الأغنية/ اللازمة التي تتردّد طوال الرواية لتنبئ بمصير الضّيوف العشرة الذين تتم دعوتهم من قاتلٍ مجهول، وبكيفية موتهم، وهي الترنيمة التي يعود تاريخها إلى عام 1868، والمستوحاة أصلاً من صيغة أميركية تدعى "عشرة هنود صغار"...
غنيّ عن القول أنّ كلمة "عبد" في استخداماتها كافة تأتي بمعنى مسيء، إذ تتضمّن تجريحاً وتحقيراً للشخص الموجّهة إليه، وتلك هي حالها لم تتبدّل، منذ استعمالاتها الأولى في القرن السادس عشر. بيد أن الكلمة لم تكن متصلة باللون، بقدر ما كانت مرتبطةً بنظام العبودية. "ففي سوق النخاسة في قبرص، كنتَ تجد عبيداً من بلدان الشرق الأدنى، من أوروبا الشرقية ومن أفريقيا. لكن، ابتداءً من القرن السابع عشر، بدأت العبودية تصبح متصلةً بالبشرة السوداء بشكل حصري"، وهو ما ورد في كتاب "الشرط الأسود"، للمؤرّخ باب ندياي.
من جانب آخر، سنرى، في نهاية الثلاثينيات، كتّاباً فرنكوفونيين سود البشرة يبتكرون مفردة "الزنوجة" (négritude) التي عرّفها الشاعرُ المارتينيكي ايمي سيزير، بقوله: "إنها الاعتراف البسيط بكونك أسود، وبالتالي تقبّل مصيرنا الأسود، تاريخنا وثقافتنا". بتعبير آخر، الزنوجة تيار أدبي وسياسي نهض بالهوية السوداء، معيداً امتلاكها، ومبدّلاً حالها من شتيمة إلى تمايز، ومن نقصٍ إلى زيادة، ذلك أن "الكلمات ترتبط بظرف استخدامها وبمن يستخدمها".
ومع هذا، يبقى السؤال: هل ينبغي للأدب أن يمارس رقابة ذاتية، شاطباً من قاموسه الكلمات العنصرية أو المعبّرة عن كل تمييز يمارس ضد عرق، أو جنس، أو لون؟ نحن هنا حيال رواية قديمة، اشتهرت عالمياً وبيعت منها نسخٌ بالملايين، بحيث باتت موجودة في معظم المكتبات. ألم يكن من الأفضل، والحال هذه، أن تبقى النسخة الأصلية على حالها، عنواناً ومفردات، مع إضافة مقدّمة أو ملاحظة تضع الرواية في إطارها التاريخي، شارحة ظروف استخدام كلمة عبد وعبيد؟
لطالما كان الأدبُ لصيق الواقع، يعمل على استشرافه، ونقله، ومحاكاته، ومحاسبته، فكيف لنا أن نقوم بتوصيف فترة تاريخية معيّنة، أو واقع معيّن، إن لم نستخدم أدواتهما؟ لا بل كيف نتعاطى مع شخصياتٍ سلبية، عنصرية، قاتلة، إن لم نحمّلها اللّغة التي لها، والأفكار التي تماثلها، والسلوك العنصري والعدائي الذي يشبهها؟ استخدام الكلمات التي تجرّ وراءها تاريخاً ثقيلاً من الإذلال، والإساءة، والعنصرية، والقتل، والإبادة، وسبل استغلال الإنسان أخاه الإنسان، لن تزول فكراً وتصرّفات ومشاعر، من خلال محوها، بل من خلال فضحها وتفكيكها وسبر دلالاتها، وذلك بهدف إبقاء عواقبها القاتمة حيّة في ضمائر الناس، فتخليص الأدب من تلك الكلمات التي تؤذي حساسيات بعضهم وقضاياهم المحقّة لا يعني احترام تلك القضايا والانحياز إليها، بقدر ما يؤدّي إلى تعقيم الأدب، أو حتى إلى إخصائه، لكي يصبح في نظرنا "بوليتيكلي كورّريكت".