هزليات السياسة الخارجية المصرية في ليبيا

27 يونيو 2020
+ الخط -
إن صحّ أن نطلق على ما تفعله مصر في دول جوارها أنه سياسة خارجية متماسكة، لديها توجهات ودوائر حركة، وأدوات يتم ترتيبها وفقا لأولويات المجتمع، وبالتعاون بين مؤسساته الحاكمة، فإن علينا مراجعة تعريف السياسة الخارجية ذاتها ومقرّراتها في الجامعات المصرية، حيث تغيب أي صورة كلية مؤسسية لصالح الحاكم الفرد، ويغيب أي نقاش جدّي مع المعنيين بهذه السياسة، سواء من المنفذين لها في وزارة الخارجية، أو من المتأثرين بها من جاليات مصرية في الخارج، مثلت المصدر الأول للتمويل الدولي للاقتصاد المصري. لا يختلف اثنان في أن ليبيا عمق استراتيجي مهم لمصر، وربما أشد أهمية من بعض دول الخليج التي أصبحت مصر رديفةً لها في كل حركاتها وسكناتها، فليبيا كانت تستوعب قرابة مليوني عامل مصري قبل الثورة، أي أنها كانت ثاني مستضيف لهذه العمالة بعد السعودية. وهي مهمة جدا من الناحية الأمنية والاستراتيجية، لكن مصر تعاملت بهزلية شديدة مع التطوارت هناك طوال السنوات العشر الماضية.
أول هزليات السياسة الخارجية المصرية أنه بينما كان العالم يتدخل، عبر حلف شمال الأطلسي (الناتو) في عملية عسكرية مباشرة ضد معمر القذافي، كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر يجري خلف المتظاهرين في شوارع القاهرة في أحداث مجلس الوزراء وماسبيرو وشارع محمد محمود. ولم يكن ينتبه أبدا إلى خطورة الوضع على الحدود الغربية للبلد، بل كان آخر المعترفين بالمجلس الوطني الانتقالي ممثلا وحيدا للشعب الليبي، وسارع باستضافة رموز فساد نظام القذافي، ووفر لهم مأوى وحماية ضد أي محاسبة، في موقفٍ يشبه ما فعلته المبادرة الخليجية في اليمن، والتي شكلت مخرجا ملائما لنظام علي عبد الله صالح إلى حين إعادة تدويره والقضاء به على الثورة.
يضاف إلى ذلك الهزل والتدليس الكبيران في اعتبار جموع الليبيين غير المؤيدين للواء المتقاعد 
خليفة حفتر إرهابيين، أو من تيار إسلام سياسي في مجتمع محافظ في معظمه، مع ذلك لم يكن تيار الإخوان المسلمين الفائز الأول، لا في انتخابات المؤتمر الوطني العام، ولا في الانتخابات البلدية الليبية، بل كان التيار المدني هناك، مع مستقلين وفيدراليين متحالفين معه، هم المسيطر على المؤسسات السياسية المنتخبة، وهؤلاء من عقّدوا الأمور، وتركوها تصل إلى طريق شبه مسدود، بافتعال أزمة شرعية، عبر لجنة فبراير التي اقترحت تعديلات على الإعلان الدستوري، وكذلك المحكمة العليا، في 2014. ثم يزيفون الحقائق ويشيعون، مع الباحثين والكتاب والصحافة الرديفة لعسكر مصر، أنهم من حاربوا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والمجموعات الإرهابية في ليبيا، وكل هذه انطلقت من أراضٍ تحت سيطرة الموتور حفتر، لتنفذ عمليات في العمق المصري في الواحات البحرية والمنيا، وخرجت سالمة من دون أن يحرّك ساكنا، أو يحاسبه حلفاؤه في القاهرة على هذا التقصير في حماية الحدود، واكتفى هو والسلطات المصرية باستغلال ذبح 21 مواطنا مصريا عزل في مدن كانت أقرب إلى سيطرته، ليبتز القاهرة ويورّطها في دعم مباشر وقوي له، لتمكينه من الوصول إلى سلطةٍ يتوق لها، من دون أن يقدّم لنا، هو والمسؤولون عن هذه السياسة، ما يفيد محاربتهم تنظيم داعش، أو نصرهم عليه، خلال ست سنوات من الدعم المباشر.
من هزليات السياسة الخارجية المصرية أيضا أنها بعدما قوّت، هي وحلفاؤها في أبوظبي، هذا الحليف الفاشل، ودفعته إلى رفض التوقيع على اتفاق رعته روسيا وتركيا لوقف إطلاق النار في موسكو في يناير/ كانون الثاني الماضي، ثم عاد ورفض مخرجات مؤتمر برلين في الشهر نفسه، لتعود وتطرح القاهرة المبادرة نفسها التي كان رئيس البرلمان في طبرق، عقيلة صالح، قد طرحها سابقا، ولم تُستقبل برد فعل دولي يذكر حولها. إنها إذن تطلق مبادرات مستهلكة، لتمكين حليفها ليس من منصب وزير الدفاع الذي ضمنه له اتفاق الصخيرات، ولكن من السلطة الكاملة في ليبيا، وهي مسألة معقدة أن تقنع شعبا عانى من الحكم العسكري المباشر لجنرال موتور لقب نفسه ملك ملوك أفريقيا واستمر في السلطة أربعين عاما، في بلد نفطي تتوفر له كل إمكانات التنمية، وعدد سكانه منخفض جدا، ولم يترك دولة ولا مؤسسات ولا جيشا، ولا حتى فرصة لتشكل قوى سياسية رشيدة وواعية، وقادرة على قيادة البلاد نحو تحول سلس نحو أي شكل للدولة والحكم.
ثم تصدر السلطات هزلية جديدة، عنوانها ضرورة الالتفاف حول القيادة السياسية المصرية في ليبيا، هذه القيادة غير السياسية التي أوهمتنا بأن في سيناء ألف إرهابي فقط، وصرحت قياداتها العليا بأنه في غضون شهر سوف تسلمها لنا متوضئة، وبعد هدم بيوت سكان الشريط الحدودي هناك من أهاليها، وتهجير جزء كبير من سكانها، وبعد سنوات من المرار والدم، ما زلنا نسمع عن استشهاد عشرات من الجنود المصريين على أراضيها، ثم تريد هذه السلطة من المصريين أن يصطفوا خلفها في تصنيف كل من لا يؤيدها إرهابيا وخائنا وغير وطني، وكل من لا يؤيد حفتر في الغرب الليبي إرهابيا. فإذا لم يكن الحكم الراهن في مصر قادرا على حسم الحرب مع ألف إرهابي داخل بلده، فهل يستطيع أن يحسمها مع قرابة أربعة ملايين في الغرب الليبي، مشتركين في قتال ممتد ضد القذافي ثم ضد الجنرال الفاشل خليفة حفتر قرابة عشر سنوات، وتقدر جهات دولية عدد المجموعات المسلحة هناك بما يقارب 1600 مليشيا، وفوق 29 مليون قطعة سلاح، وفقا لتقديرات الأمم المتحدة على مساحة عشرة أضعاف سيناء.
أحد أسوأ هذه الهزليات أنها تعيد استخدام أدوات وأفكار فاشلة، من قبيل تسليح القبائل. وهذه ورقة احترقت مع الثورة الليبية، وأحد مظاهر تعقد المشهد أن القبائل لم تعد مسيطرة على شبابها منذ 
2011، وأن مشايخ هذه القبائل أصبحوا جزءا من الصراع وليس الحل في أحيان كثيرة، وأن النظر إلى ليبيا باعتبارها مجموعة قبائل يراه الليبيون استعلاء مصريا، وهو أيضا تبسيطٌ مخلّ، فلو كان الشباب الليبي مقتنعا بمجرد كونه عضوا في قبيلةٍ ما احتاجوا لثورة لتغيير هذا الوضع، إضافة إلى أن التحولات في الدول النفطية في السنوات الأخيرة غيرت التركيبة الاجتماعية، وأفرزت نخبا ومثقفين وطبقات وفئات لديها مصالح معقدة. وعندما يتحدث رئيس مصر بهذه اللهجة، فإنه يبدو كما لو كان شيخ قبيلة. كما أن النخب المصرية تحتقر القبلية، وتستخدمها لتحقير دول الجوار دوما. وقد فشلت فكرة الصحوات في العراق وفي سيناء، ولم تفلح في مواجهة إرهابٍ، ولا في تحقيق استقرار، بل عملت في الاتجاهات المناقضة.
من أشد هزليات السياسة الخارجية المصرية أيضا أنها تطالب مرارا وتكرارا بوقف التدخلات الدولية في ليبيا، بينما هي متدخلة هناك، وجلبت تدخلاتها تدخلات أجنبية أكثر وتعقيدا أكبر للعملية السياسية في هذا البلد، ولم تتدخل بالشكل الحاسم، أو تترك فرصة لليبيين ليحلوا مشكلاتهم بأنفسهم، وتحتفظ بدور الوسيط المحايد أو الضامن لأية اتفاقات، بل واخترعت أطرا فاشلة، مناوئة للإطار المغاربي الأممي الحاكم للأزمة باتفاق الصخيرات الذي وصلت إليه الأطراف، بعد مفاوضات مضنية ورعاية دولية. وبدلا من أن تدخل القاهرة على الخط داعما لعملية تنفيذ هذا الاتفاق، ومشاركا في عملية بناء الدولة ومؤسساتها، اختارت الانحياز للطرف الأفشل، ودمرت مصالح المصريين، بل وتريد سحب الرواية الرسمية المصرية عن الثورات، باعتبارها مؤامرة. وتكرّر تصريحات روسيا باعتبار تدخل حلف الناتو كان خطأ، وكأنها كانت تريد لنظام القذافي أن يسحق انتفاضة الشعب الليبي، وأن يستمر نزيف هذا الشعب بالكثافة نفسها التي كان فيها في أواخر أيام نظام القذافي.