القَبْلَنَة والدولة والحداثة... وإبراهيم العرجاني

القَبْلَنَة والدولة والحداثة... وإبراهيم العرجاني

06 مايو 2024

(سيف وانلي)

+ الخط -

انتشر قبل أيام مقطع فيديو لرجل الأعمال وصاحب الصعود السريع في ظلّ النظام المصري إبراهيم العرجاني، الذي لُمّعَ وصَعَدَ بشكل مُريب، بل وصعدت معه عائلته ليتحدّث بعضهم عن ابنه، الكابتن طيار، كما لو كان خرّيجاً في الكلية الجوّية، فيما هو متخرّج في أكاديمية خاصة أنشأها والدُه في جنوب أفريقيا، وليس لها تاريخ. أثار هذا الفيديو (يظهر فيه موكب سيارات فارهة للعرجاني ومرافقيه في حفل تنصيبه رئيساً لاتحاد قبائل سيناء في 1 مايو/ أيار الحالي) جدلاً كان مخفيّاً أحياناً، ومُعلناً في أحيان كثيرة، عن العرجاني، وصبحي نخنوخ، وصعود المليشيات على غرار قوات محمد حمدان دقلو (حميدتي) في السودان؛ "الدعم السريع"، وخطورة ذلك على الدولة المصرية، وقَبْلَنَتِها، وتحويل الصراع من صراع حداثيّ على شكل الدولة وإدارتها وعلاقاتها بالسوق والمجتمع إلى صراع علاقات أولية قَبَلِيّة ما قبل حداثية.
هوّن بعضهم من المسألة باعتبارها ليست جديدةً، فاتحادات القبائل موجودة منذ زمن، بل طالب بعضهم بالاستفادة منها على هامش الثورة، فيما طفا على السطح جدلٌ بشأن استعمال اتحاد قبائل سيناء في ما عرف بـ"الحرب على الإرهاب"، التي يزعم النظام المصري أنّها حُسِمِتْ بجهود هذا الاتحاد، وعلاقاته الداعمة للجيش. صحيحٌ أنّه كانت هناك اتحادات قَبَلِيّة ومحاولة جادة لاستخدام القبائل وتوظيفها سياسياً منذ عهد محمد علي (1849)، لكن من دون أن تجتمع في أيّ من تلك الاتحادات تجارة السلاح والمخدّرات مع مليشيات تحت الطلب وتنسيق مع الجيش والشرطة، مع شعبوية رثّة تنشر الفيديوهات على سبيل الفخر والهيبة، في وجود هذه النسبة المرتفعة للغاية من الفقر وتعاطي المخدّرات بين الشباب في طول البلاد وعرضها، ممن يمكن فعلاً أن يتقاتلوا لأجل "شريط برشام"، كما لمّح الرئيس عبد الفتاح السيسي سابقاً، هل تخيّلتم ما يمكن أن يُخرجه هذا الخليط، الذي ربّما يُخرج لنا نسخاً أكثر تدهوراً وخطورة بعشرات المرّات من حميدتي وكلّ المليشيات المسلّحة التي شهدتها المنطقة، على بؤسها، مع "بيزنس" ضخم، وشبكة علاقات ومصالح معقّدة في الداخل والخارج، بمصادر مالية شبه مُستدامة.

ليست المشكلة مع العرجاني نفسه قائداً أقرب إلى المليشياوي حميدتي في السودان بقدر ما هي في القواعد والقيادات التي سمحت بهذا الصعود 

لا تكمن مشكلتنا مع العرجاني نفسه قائداً أقرب إلى المليشياوي حميدتي في السودان في قصة صُعوده وتصعيده، بقدر ما هي في القواعد والقيادات التي سمحت بهذا الصعود في قلب مصر، واحدة من أقدم الدول والحضارات في تاريخ الدولة والفكر السياسي. العجيب أنّ لهذا العرجاني مؤيّدون يدافعون عنه حقاً باعتباره مُخلّص سيناء، بل مصر، من الإرهاب، في تقليل من شأن الجيش المصري والشرطة المصرية، وأبناء هاتين المؤسّستين الذين قضوا في الحرب على الإرهاب، وكأنّ الدولة ومؤسّساتها لم تستطع القضاء عليه (الإرهاب) بينما استطاعت ذلك مليشيات العرجاني. قد يثير هذا الكلام حفيظة هؤلاء المنتسبين لتلك الأجهزة، ممن لم يُشترَ سكوتُهم بالمال والنفوذ، ولم يُوَرّطوا في علاقات مع العرجاني ونخنوخ، لضمان الصمت العميق المريح للنظام.
الخطر هنا يكمن في ‏‎التحوّل من رئاسة اتحاد قبائل سيناء الداعم للجيش في حربه على الإرهاب إلى رئاسة اتحاد القبائل العربية، وتصريح مصطفى بكري (المتحدّث باسم الأخير) بأنّ الاتحاد تابع للجيش يعزّز علاقة العرجاني، وعلاقة أيّ كان من قيادات هذه التشكيلات المليشياوية بالجيش، بشكل مباشر وغير مباشر. فمع احترامنا لمن يقولون إنّ الجيش المصري وطني غير قَبَلِي، فإنّ كلّ الضبّاط خريجي الكليات العسكرية لا يدخلون من دون واسطة، بل بواسطة قَبَلِيّة من مرتبة عالية، وبما يشبه الـ"كوتا" (المحاصصة) العائلية والقَبَلِيّة، وهذا معروفٌ في الصعيد، وهناك قبائل ومناطق محرومة منها، يكفي أن تطالع صفحات مراكز الصعيد وعائلاتها في أثناء إعلان نتائج اختبارات كلّيات الشرطة والكليات العسكرية، لتلحظ التهاني داخل القبيلة الواحدة، والمدينة الواحدة، ما يدحض فكرة الدولة الوطنية المؤسّسية المُتخيّلة لدى بعض النخب القاهرية والإسكندرانية، للأسف.

عملية توسيع اتحاد القبائل لتشمل ربوع القطر المصري عملية معقّدة بما فيها من تحوّله إلى أكثر من مجرّد رابطة قَبَلِية أو جمعية أهلية

ولا يبدو أمام الباحثين إلا ‏‎النظام القوي والدولة الضعيفة نظريةً مفسّرةً للقَبْلَنة بشكل كبير، فرغم قوّة النظام ازدادت الدولة ضعفاً. العائلة والقبيلة هي المنقذ من الفقر. هناك ملاحظة هامشية، أنّ هذه السيارات كلّها، باهظه الثمن، تسير فى مكان لا يوجد فيه حتّى أسفلت، ولا أيّ خدمات عامة، ومع ذلك، تقف الناس للشموخ والعظمة والهيبة لصاحب الموكب، فهل هو اندهاش وإعجاب حقيقي بنموذجي النخنوخ والعرجاني، اللذين عادة ما تفخّمهما الدراما المصرية وتبجّلهما أم هو إعجاب بعلاقات القوة، وحينها علينا أن نتساءل ماذا سيحدث عقب ذلك؟
والملاحظ هنا أنّ عملية توسيع اتحاد القبائل لتشمل ربوع القطر المصري عملية معقّدة بما فيها من تحوله إلى أكثر من مجرّد رابطة قَبَلِية أو جمعية أهلية، وقد تجعله أقوى من أيّ نقابة أو حزب، بما تملكه القبائل والعائلات من دواوين وأموال وجمعيات، بل وبما قد يطالب به العرجاني وغيره من مقارّ في ربوع الجمهورية، لديه المال لشرائها أو القوة للاستحواذ عليها بطرق مشروعة وغير مشروعة، ولنتخيّل حجم القَبْلَنة التي يجرى الدفع باتجاهها، فحين نتحدّث عن القبائل العربية في مدن الصعيد، فنحن نتحدث عن عشرات الملايين، وفي ما يخص القانون والقضاء، فإنّ ما يُحلّ من مشكلات من طريق العرف، بعيداً عن أقسام الشرطة والنيابة والمحاكم، أكبر بكثير مما يُحلّ في داخلها وعبر آليات الدولة الحديثة.

أن تُلمّع دولة ونظامها مليشيا لشخص مجهول الهوية، وغير معروف سابقاً، هي مشكلة في حدّ ذاتها

على هامش هذا النقاش، يرى بعضهم أنّ الموضوع حملةٌ مبالغٌ فيها من "الإخوان المسلمين" والمعارضة، ويشيد هؤلاء بجهود التنمية، وإعادة التوطين، على طريقتهم الخاصة؛ بمشاركة منشورات بائسة عن تسليم 1148 بيت بدوي، وأول الغيث قطرة، متناسين أنّ سبعين ألفاً مهجّرون منذ سنوات لم يعودوا، وتظاهروا في رفح، قبل أيام من "طوفان الأقصى"، في حراك لم يمت، وإن هدأ قسراً أو طوعاً. ولم يقل لنا هؤلاء كم من السكان وُطّنوا في سيناء، بعد قرابة قرن من الصراع مع الاحتلال، كي لا نقول عبر العقود القليلة الماضية، عقب اتفاقات السلام البارد، وإطلاق مسارات إعادة التوطين ودعاواها؟... في الحقيقة، الأرقام هزيلة، وكلّ تعداد سكّان شبه الجزيرة لا يساوي سكّان أيّ من مراكز محافظتي الصعيد والدلتا.
ومع عدم إغفال الأبعاد الأخرى، كالأنثربولوجيا، فالاقتصاد السياسي شديد الأهمية، لأننا لا نتحدّث في فراغ، بل في إطار خطّة مُحكمة للتطبيع الاقتصادي الإقليمي، ومشاريع "نيوم"، وأخيراً، مشاريع "تنمية سيناء"، والتي كانت القيادة فيها، وستكون، للعرجاني وأمثاله، ما يثير تساؤلات أكثر مما يجيب عن سؤال التنمية الغائبة، لأنّه لولا الإمكانات المالية الضخمة لن تسمع لا عن نخنوخ ولا عن العرجاني. نحن نتحدّث عن إمبراطورية مالية بلا أساس منطقي سوى تجارة المعابر، والتهريب، والاتجار بآلام البشر وقت الحروب، وتحقيق مكاسب قصوى لم تحققها، ربّما، عصابات صربيا وبلغاريا واليونان في عقد من هجرات اللاجئين إلى أوروبا، وهو يتداخل في الصناعة والإنشاءات والسياحة والخدمات، وصولاً إلى إنشاء أكاديميات للطيران، فكم سيكلفنا تفكيك أو ترويض هذا الكمّ من المال السياسي، الذي نشأ سياسياً ويجرى توظيفه، ربّما بشكل أكثر احترافية وإحكاماً؟
في تحليلٍ ذاع أخيرا في ضوء التطورات نحو القَبْلَنة التي دشنّها الرئيس عبد الفتاح السيسي في أكثر من مناسبة، فإنّ تصريح مصطفى بكري بأنّ اتحاد قبائل سيناء ليس مليشيا، وإنما هو فصيل من القوّات المسلّحة، تصريح خطير على المجتمع والدولة والنظام السياسي ذاته، حتى لو افترضنا جدلاً أنّه كان عفوياً، ويمثّل بكري نفسه، فأن تُلمّع دولة ونظامها مليشيا لشخص مجهول الهوية، وغير معروف سابقاً، هي مشكلة في حدّ ذاتها.