10 نوفمبر 2024
من قال إنّ القصة انتهت؟
على الرغم من أنّ الآفاق السياسية المتوقعة من الانتفاضات الشعبية الجديدة (في العراق ولبنان ضد السلطة والسياسات المتكلّسة) تكاد تكون محدودة وضعيفة في دول تعاني من انقسام مذهبي وطائفي عميق، ومسكونة بشروخ الثقة المتبادلة؛ إلّا أنّها تحمل أبعادًا ودلالات ورسائل دقيقة ومهمة لمن كان يعتقد أنّ الربيع العربي انتهى، وأنّ طموح التغيير وآماله تبخّرت لدى الشارع العربي الذي ارتعب من مشهد الدماء والفوضى، وقبل بالعودة إلى الفزّاعة التاريخية القديمة "الفوضى أو الاستبداد".
صحيح أنّ انتفاضتي العراق ولبنان بدأتا احتجاجاً على قضايا خدماتية أساسية، لكنهما اتخذتا طابعاً سياسياً بسرعة فائقة، فتحولت الشعارات والمطالب إلى المسار السياسي، وهو أمر طبيعي، ففشل الخدمات والكهرباء والنفايات جزء من فشل الدولة العربية السلطوية العام في بناء دولة القانون والعدالة وتكافؤ الفرص والتعددية والمواطنة، وانتشار الفساد المتزاوج مع النخب المستفيدة من الوضع القائم.
"الجمهور" لا يخشى "الشارع"، على الرغم من كل ما يحدث في العالم العربي، بمثابة دلالة على قدر كبير من الأهمية، خصوصاً أنّنا نتحدث عن حالتين (العراق ولبنان) كانتا تمثّلان السيناريو الأخير لرؤية انتفاضة شعبية، بسبب الانقسامات الحادّة فيهما، وفي مواجهة القوى السياسية التي كان من المفترض أنّها التي تمسك بالشارع، وتقيّد حركته لصالح الأجندة الطائفية المرتبطة بإيران ونفوذها المتنامي لدى المجتمع الشيعي العربي.
ومن المهم، كذلك، أنّ نلتقط الإشارة العراقية الجديدة من الاحتجاجات، وما تحمله ضمنياً من انزعاج وتمرّد على النفوذ الإيراني، وضيق صدر بالهيمنة الإيرانية، الأمر الذي بدا واضحاً في مجازفة رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، في تحدي رجل إيران في العراق، نوري المالكي، ما أثار عليه لاحقاً غضب المليشيات الشيعية، وتيار عريض من الحشد الشعبي، في محاولة لإفشال خطواته الإصلاحية المعلنة.
لم يكن العبادي ليجرؤ على هذه الخطوات، لولا متغيران رئيسان؛ الحراك الشعبي العارم ضد انقطاع الكهرباء، بعد أن اتخذ طابعاً سياسياً ضد الطبقة السياسية الفاسدة، وتأييد المرجعية الشيعية في النجف، الصامتة (السيستاني) والناطقة منها (التيار الصدري) لهذه الخطوات، ما يعكس ملاحظة أخرى تستحق القراءة والاهتمام، وتتمثّل في التنافس التقليدي بين نجف وقمّ، ما يستبطن الأبعاد القومية والوطنية المتوارية المستترة مع صعود الصراع المذهبي العابر للحدود والدول.
وفي لبنان، لا يختلف الأمر كثيراً، فمن يراقب الأذرع الإعلامية للقوى السياسية الطائفية المهيمنة يجد أنّ الجميع يحاول الركوب على أمواج الانتفاضة الراهنة، على الرغم من إدراكهم أنّ الحركة الشعبية الراهنة هي انتفاضة ضد الطبقة السياسية بأسرها، واتهامها بالفساد، حكومة وقوى ونواباً، وهي ردّ اعتبار لمفهوم "لبنان الدولة والمجتمع" في مواجهة مفهوم "ساحة للنفوذ الإقليمي".
إلى أين ستأخذنا هذه الاحتجاجات في اللحظة العربية الراهنة؟ من الصعوبة بمكان رفع سقف التوقعات كثيراً، لكنها، وهذا بيت القصيد، تؤكّد أنّ "الثورة المضادة" التي تمّ إطلاقها ودعمها بقوة مالية وسياسية وإعلامية هائلة من "المعسكر المحافظ العربي"، بهدف "حماية الوضع القائم" وممانعة التغيير (على حد تعبير الكاتب الإماراتي عبد الخالق عبدالله) لم تقرأ جيداً، ولا بعمق الأسباب والشروط والعوامل التي أدت إلى ولادة الثورات الشعبية، وفي مقدمتها انتهاء صلاحية النظام الرسمي العربي بصيغته الاستبدادية الراهنة.
على الرغم من كل محاولات التجميل الإعلامي، فإنّ ما تعده الأنظمة العربية السلطوية المحافظة للشعوب العربية هو التخويف من التغيير والترغيب في بقاء الوضع القائم، بوصفه أفضل من "الإخوان المسلمين" أو داعش أو الفوضى، لكن هذا الوعد لا يجيب على أسئلة مهمة وهواجس مؤرقة لدى الأجيال الجديدة التي تبحث عن "أفق" أو "مخرج" عن أي أمل في مستقبل أفضل أمام معدلات البطالة والفقر والشعور بغياب العدالة.
والأهم من هذا وذاك أنّ الطبقة الوسطى التكنوقراطية التي حرّكت المياه الراكدة خلال الربيع العربي الأول، لن تهدأ، وستعود إلى الشارع، لأنّها تخوض معركة مصيرية؛ لحماية مصالحها وأبنائها، وهي الطبقة التي دفعت ثمناً غالياً لما حدث في سورية والعراق، وقبل ذلك في مصر واليمن وليبيا، لأنّها واجهة قوى منظّمة مدعومة إقليمياً، حرّكت الشرائح الأخرى من الشارع في الاتجاه الآخر، واستطاعت استقطاب جزء من هذه الطبقة، مرحلياً، بدعوى الخوف من إحلال الاستبداد الديني مكان الاستبداد السياسي.
بالضرورة، فإنّ النسخة الثانية بمثابة رسالة تحذير في غاية الأهمية لورشة العمل العربية التي تعمل على ترميم "البناء السلطوي"، تتزاوج مع تطوّر آخر لا يقلّ أهمية، يتمثّل في الصفقة الإيرانية- الأميركية التي تعني، بقراءة غير مباشرة لكنّها عميقة، أنّ "الصفقة التاريخية" بين الإدارات الأميركية والنظام الأوتوقراطي العربي هي الأخرى تترنّح.
ربما لو أعدنا قراءة تصريحات الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في مقابلاته المهمة مع الصحافي الأميركي، توماس فريدمان، عن الشرق الأوسط، نجد بوضوح أنّ هنالك قناعة أميركية بأنّ الأزمات الداخلية العربية أكبر من أزماتها الإقليمية، وأنّ ديمومة الحال من المحال، ما دام هناك تيار شعبي عريض لا يزال يرى أنّ حلم الديمقراطية ممكنٌ.
صحيح أنّ انتفاضتي العراق ولبنان بدأتا احتجاجاً على قضايا خدماتية أساسية، لكنهما اتخذتا طابعاً سياسياً بسرعة فائقة، فتحولت الشعارات والمطالب إلى المسار السياسي، وهو أمر طبيعي، ففشل الخدمات والكهرباء والنفايات جزء من فشل الدولة العربية السلطوية العام في بناء دولة القانون والعدالة وتكافؤ الفرص والتعددية والمواطنة، وانتشار الفساد المتزاوج مع النخب المستفيدة من الوضع القائم.
"الجمهور" لا يخشى "الشارع"، على الرغم من كل ما يحدث في العالم العربي، بمثابة دلالة على قدر كبير من الأهمية، خصوصاً أنّنا نتحدث عن حالتين (العراق ولبنان) كانتا تمثّلان السيناريو الأخير لرؤية انتفاضة شعبية، بسبب الانقسامات الحادّة فيهما، وفي مواجهة القوى السياسية التي كان من المفترض أنّها التي تمسك بالشارع، وتقيّد حركته لصالح الأجندة الطائفية المرتبطة بإيران ونفوذها المتنامي لدى المجتمع الشيعي العربي.
ومن المهم، كذلك، أنّ نلتقط الإشارة العراقية الجديدة من الاحتجاجات، وما تحمله ضمنياً من انزعاج وتمرّد على النفوذ الإيراني، وضيق صدر بالهيمنة الإيرانية، الأمر الذي بدا واضحاً في مجازفة رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، في تحدي رجل إيران في العراق، نوري المالكي، ما أثار عليه لاحقاً غضب المليشيات الشيعية، وتيار عريض من الحشد الشعبي، في محاولة لإفشال خطواته الإصلاحية المعلنة.
لم يكن العبادي ليجرؤ على هذه الخطوات، لولا متغيران رئيسان؛ الحراك الشعبي العارم ضد انقطاع الكهرباء، بعد أن اتخذ طابعاً سياسياً ضد الطبقة السياسية الفاسدة، وتأييد المرجعية الشيعية في النجف، الصامتة (السيستاني) والناطقة منها (التيار الصدري) لهذه الخطوات، ما يعكس ملاحظة أخرى تستحق القراءة والاهتمام، وتتمثّل في التنافس التقليدي بين نجف وقمّ، ما يستبطن الأبعاد القومية والوطنية المتوارية المستترة مع صعود الصراع المذهبي العابر للحدود والدول.
وفي لبنان، لا يختلف الأمر كثيراً، فمن يراقب الأذرع الإعلامية للقوى السياسية الطائفية المهيمنة يجد أنّ الجميع يحاول الركوب على أمواج الانتفاضة الراهنة، على الرغم من إدراكهم أنّ الحركة الشعبية الراهنة هي انتفاضة ضد الطبقة السياسية بأسرها، واتهامها بالفساد، حكومة وقوى ونواباً، وهي ردّ اعتبار لمفهوم "لبنان الدولة والمجتمع" في مواجهة مفهوم "ساحة للنفوذ الإقليمي".
إلى أين ستأخذنا هذه الاحتجاجات في اللحظة العربية الراهنة؟ من الصعوبة بمكان رفع سقف التوقعات كثيراً، لكنها، وهذا بيت القصيد، تؤكّد أنّ "الثورة المضادة" التي تمّ إطلاقها ودعمها بقوة مالية وسياسية وإعلامية هائلة من "المعسكر المحافظ العربي"، بهدف "حماية الوضع القائم" وممانعة التغيير (على حد تعبير الكاتب الإماراتي عبد الخالق عبدالله) لم تقرأ جيداً، ولا بعمق الأسباب والشروط والعوامل التي أدت إلى ولادة الثورات الشعبية، وفي مقدمتها انتهاء صلاحية النظام الرسمي العربي بصيغته الاستبدادية الراهنة.
على الرغم من كل محاولات التجميل الإعلامي، فإنّ ما تعده الأنظمة العربية السلطوية المحافظة للشعوب العربية هو التخويف من التغيير والترغيب في بقاء الوضع القائم، بوصفه أفضل من "الإخوان المسلمين" أو داعش أو الفوضى، لكن هذا الوعد لا يجيب على أسئلة مهمة وهواجس مؤرقة لدى الأجيال الجديدة التي تبحث عن "أفق" أو "مخرج" عن أي أمل في مستقبل أفضل أمام معدلات البطالة والفقر والشعور بغياب العدالة.
والأهم من هذا وذاك أنّ الطبقة الوسطى التكنوقراطية التي حرّكت المياه الراكدة خلال الربيع العربي الأول، لن تهدأ، وستعود إلى الشارع، لأنّها تخوض معركة مصيرية؛ لحماية مصالحها وأبنائها، وهي الطبقة التي دفعت ثمناً غالياً لما حدث في سورية والعراق، وقبل ذلك في مصر واليمن وليبيا، لأنّها واجهة قوى منظّمة مدعومة إقليمياً، حرّكت الشرائح الأخرى من الشارع في الاتجاه الآخر، واستطاعت استقطاب جزء من هذه الطبقة، مرحلياً، بدعوى الخوف من إحلال الاستبداد الديني مكان الاستبداد السياسي.
بالضرورة، فإنّ النسخة الثانية بمثابة رسالة تحذير في غاية الأهمية لورشة العمل العربية التي تعمل على ترميم "البناء السلطوي"، تتزاوج مع تطوّر آخر لا يقلّ أهمية، يتمثّل في الصفقة الإيرانية- الأميركية التي تعني، بقراءة غير مباشرة لكنّها عميقة، أنّ "الصفقة التاريخية" بين الإدارات الأميركية والنظام الأوتوقراطي العربي هي الأخرى تترنّح.
ربما لو أعدنا قراءة تصريحات الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في مقابلاته المهمة مع الصحافي الأميركي، توماس فريدمان، عن الشرق الأوسط، نجد بوضوح أنّ هنالك قناعة أميركية بأنّ الأزمات الداخلية العربية أكبر من أزماتها الإقليمية، وأنّ ديمومة الحال من المحال، ما دام هناك تيار شعبي عريض لا يزال يرى أنّ حلم الديمقراطية ممكنٌ.