من الانتفاضة الأولى إلى مسيرات العودة

29 ابريل 2018
الانتفاضة الأولى وصلت للداخل الفلسطيني عام ٤٨ (فرانس برس)
+ الخط -
نجحت مسيرات العودة الكبرى في استعادة مشاهد الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي انطلقت شرارتها قبل 31 عاماً؛ فمع انطلاق المسيرات السلمية في 30 آذار/ مارس المنصرم وما رافقها من فعاليات واحتجاجات على طول السياج الحدودي الفاصل مع دولة الاحتلال الإسرائيلي ونقاط التماس معه، عادت أدوات ووسائل النضال الفلسطيني المستخدمة في الانتفاضة الفلسطينية الأولى إلى الظهور من جديد وعادت الكوفية الفلسطينية وعلم فلسطين وأغاني الثورة الفلسطينية والشعارات القديمة للظهور في ساحات التظاهر وحدها من دون منازعة من راية فصيل أو علم منظمة، فلا تكاد تخلو نقطة تجمع للمتظاهرين في مخيمات العودة السلمية من شباب يقذف جنود الاحتلال الإسرائيلي الموجودين خلف السياج الفاصل بالحجارة سواء باليد المجردة أو بواسطة مقلاع أو "شُديدة".
فَتحت الانتفاضة الفلسطينية الأولى الباب أمام الإبداعات الشعبية وتركت للمنتفضين مساحة لا حدود لها من إبداع واختراع أدوات ووسائل النضال والمقاومة والتفنن في صياغة الشعارات والهتافات والمسميات، مما أدهش العالم في حينه، وقد التقت مسيرات العودة مع الانتفاضة الأولى في ذلك وتقاطعت معها بشكل لافت للأنظار، فمن إبداع شبابها الغاضب لمسميات جديدة خرجت من وحي ميدان مواجهة الجيش الإسرائيلي ولوقف غطرسته وإجرامه بحق المتظاهرين سلميًا كوحدة الكوشوك، ووحدة مكافحة الغاز المسيل للدموع، ووحدة المقلاع، وكلها شعبية وذاتية القيادة والمنشأ والتصرف، إلى ظهور استخدامات غير تقليدية لوسائل النضال القديمة، من ذلك إبداع طرق استخدام جديدة للزجاجات الحارقة "المولتوف" من خلال ربط شريط قماشي مشتعل في ذيل طائرة ورقية وتركها تسقط بعد السياج الفاصل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن ذلك أيضًا قيام الشباب الفلسطيني الثائر في فعاليات مسيرات العودة على حدود قطاع غزة بإشعال إطارات السيارات (الكوشوك) بطريقة إبداعية تهدف إلى حجب رؤية القناصة الإسرائيليين وصد عدوانهم بشكل سلمي عن المتظاهرين في جمعة أطلقوا عليها جمعة الكوشوك، وقد عمد الشباب الفلسطينيون في انتفاضتهم الأولى إلى حرق الإطارات رغبة منهم في التعبير بشكل صاخب عن رفض الظلم والعدوان اللذين تمارسهما عليهم دولة الاحتلال الإسرائيلي، ما زال حرق الإطارات فكرة حية وجاهزة للاستخدام في أي لحظة وفي أي مكان، إذ إنها لم تعد حكرًا على الثورة الفلسطينية بل أصبحت أيقونة للاحتجاج السلمي في كل بقاع الأرض.
كان ثوار الانتفاضة الأولى يعملون على حشد الناس وتشجيعهم على المشاركة والانخراط في المظاهرات والاحتجاجات عبر الكتابة على الجدران ومن خلال توزيع المنشورات الورقية، والنداء بمكبرات الصوت، وبشكل مشابه سخّر الثائرون في مسيرات العودة جدران منصات التواصل الاجتماعي لحشد المناصرين والمتظاهرين من خلال المنشورات والتغريد على الصفحات والحسابات الشخصية وعبر ترويج الهاشتاق المناصر لفعاليات مسيرات العودة، واستطاعوا باستخدام كاميرات الهواتف المحمولة توثيق مشاهد من عدة زوايا للجرائم المرتكبة من قبل الجيش الإسرائيلي وفضح ممارساته اللاأخلاقية بحق المتظاهرين السلميين.
العجيب أن الغالبية العظمى من هؤلاء الشباب ولدوا بعد أوسلو أي بعد قيام السلطة الفلسطينية وانتهاء الانتفاضة، بمعنى أنهم لم يعايشوا أحداث الانتفاضة الأولى، إلا أنهم وبشكل لافت للإعجاب استطاعوا إحياء أدوات النضال الفلسطيني المستخدمة في الانتفاضة الفلسطينية الأولى والتسلح بها، ذلك مع إبدائهم الحرص الشديد في عدم حرف مسار مسيرات العودة عن السلمية والمدنية والاقتصار على وسائل الكفاح السلمية فقط، والحذر من الانجرار خلف شهوة الاحتلال في التصعيد العسكري مما قد يؤدي إلى وأد المسيرات والفعاليات وإفشالها، إذ إن أهم أهداف مسيرة العودة جلب أنظار العالم وكسب التعاطف الدولي وحشد المناصرين للقضية وتحريك المجتمع الدولي لمصلحة الحقوق الفلسطينية في شتى بقاع العالم.
وهنا يبرز واحد من أهم الفوارق بين الانتفاضة الفلسطينية الأولى ومسيرات العودة الكبرى؛ فالانتفاضة الأولى حاولت وسعت بكل الوسائل والطرق إلى تطوير أساليب نضالها ووسائل الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني وسعت إلى حمل السلاح واستخدامه في ميدان المواجهة ضد جنود الاحتلال، وإن اختلفت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عن مسيرات العودة الكبرى من حيث بواعث انطلاق شرارتها، إلا أنهما متوافقتان في السياق المؤدي إليهما، نتيجة لما وصل إليه الحال في الأراضي الفلسطينية المحتلة من ظلم وتضييق وحصار وامتهان لكرامة الإنسان الفلسطيني وتجاهل لحقوقه المشروعة، وزيادة على ذلك اعترافه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل وعزمه نقل السفارة الأميركية إليها.
استطاعت مسيرات العودة أن تحشد في صفوفها جميع مكونات المجتمع الفلسطيني؛ فالهبة جماهيره بامتياز فيها النساء والأطفال والشيوخ والشباب، ومن بينهم أكاديميون وعلماء وأدباء ورجال أعمال ووجهاء وأعيان، فلم تقتصر على فئة واحدة ولم تخلُ منها شريحة من شرائح المجتمع الفلسطيني، وهذا مشابه تمامًا لما حصل في الانتفاضة الفلسطينية الأولى حين احتشد الكل الفلسطيني في خندقها وانصهر الجميع في فعالياتها مما زاد من قوتها وضخامتها. علق يوحنان تسوريف مسؤول الشؤون الفلسطينية بوزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية على ذلك قائلًا: "إن المسيرات الشعبية الفلسطينية شكلت تكرارًا واستنساخًا لما شهدته الانتفاضة الأولى من مشاركة جماهيرية حاشدة لم يعهدها الفلسطينيون بهذه الكثافة منذ ثلاثين عامًا، وبدل أن يكون عدد القتلى والجرحى الفلسطينيين رادعًا للمتظاهرين، فقد شكل عاملًا دافعًا لهم للانتقام، وزيادة أعدادهم للانضمام إلى التظاهر"، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الشعب الفلسطيني مجبول على النضال والكفاح وأنه ما زال متمسكًا بحقوقه وأن جذوة الثورة مشتعلة في صدره سارية في عروقه لا تخبو ولا تنطفئ.
كان للقيادة الفلسطينية دور بارز في الانتفاضة الفلسطينية الأولى ألهب مشاعر المنتفضين وعزز من صمودهم ومن تلك القيادات الشهيد، أو جهاد، خليل الوزير والذي اتهمته إسرائيل بتصعيد عنف الانتفاضة واغتاله الموساد الإسرائيلي في تونس في 16 إبريل/ نيسان 1988، وقد يكون ذلك من وعي وحنكة أبو جهاد، إذ إن التحركات المدنية والشعبية تحتاج إلى قيادة تساندها وتدعمها، والجماهير الثائرة تزيد حماستها وقوتها إذا وجدت بين صفوفها القادة والساسة وأصحاب الرأي والقرار ويزيد ذلك من تقبلهم التضحية واستعدادهم للبذل والعطاء. وقد استلهمت قيادة حماس والفصائل الفلسطينية ذلك، فعمدت إلى الالتحام مع الجماهير ومشاركتهم في الفعاليات والمكوث معهم في مخيمات مسيرات العودة.
في ظل تسابق حكومات وأنظمة عربية انهارت أخلاقياً وتنصلت من عروبتها وأخذت في الركض في رضا إسرائيل ومد خيوط الود والانسجام بينها وتطبيع العلاقات معها تحت مبررات واهنة وحجج مخترعة، تأتي مسيرات العودة الكبرى لتثبت لتلك الحكومات والأنظمة وللعالم أجمع ولكل من راهن على نسيان الفلسطيني حقه أو تنازله عن أرضه أو انصياعه لسوط الجلاد وسطوة الأقوياء، أن الفلسطينيين لن ينسوا أرضهم ولن يتنازلوا عن حقهم في العودة إليها، وأنهم سيسقطون كل محاولة أو صفقة تسعى لشطب حقوقهم ولن يترددوا للحظة من معانقة الأسلاك الشائكة بصدورهم العارية ومن ري تراب فلسطين بدمائهم الزكية، وإن كانت إسرائيل قد استعانت بأطراف فلسطينية وعربية لوقف الانتفاضة الأولى؛ فهي تستجدي هذه المرة أيضا بحلفائها العرب لعمل ما يمكن لوقف مسيرات العودة وإنهائها وقد صرح بذلك الوزير الإسرائيلي السابق عمير بيرتس في تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، قائلًا: "إن مصر والدول الخليجية وحدها التي تملك القدرة على إنقاذ إسرائيل من ورطة مسيرات العودة".
المساهمون