كان العازف الأعمى يوقّع لحناً معقّداً يتراوح بين الفرح والحزن، وبين الحكمة والنزق. وكان المغنّي بصوته الأجش يرتجل كلمات يتبع بها حالات الوجد للعازف المستبد. وبينهما وقفت الراقصة تتبعهما كما الموج يلعب بزورق. كان الثلاثة يبدعون، وكنتُ وحدي مثل أمير تتري أمثّل الجمهور المفرد لجوق أحمق عبقري.
كنا في بستان الزاوية تحت النخلة التي يأوي إليها اليمام كل صيف. رتّبنا كل شيء منذ البارحة وأقفلنا الباب من الداخل، وأخفى الأعمى المفتاح.
العازف أسمر بعينين خضراوين وجديلتين تدلّيَتا على الكتفين وتبدّى مثل إله فرعوني. الراقصة ليست جميلةً، لكنها متمكّنةٌ من خصرها كمصارع يوناني. أمّا المغنّي فيملك قصبة هوائية يمكن أن تنافس لحن آلات وترية وريحية وإيقاعية مجتمعة.
"كنت بشتاقلك وأنا وإنت هنا
بيني وبينك خطوتين خطوتين
شوف بقينا ازاي أنا فين وانت فين
فييييييين
والعمل إيه العمل
ما تقولي أعمل إيه
والأمل
أنت الأمل
تحرمني منّك ليه؟
فين إنت يا نور عيني
يا روح قلبي فين؟
بخاف عليك
بخاف تنساني... "
- أن تستطيع أن تغنّي هذه الأغنية يعني أن تقدر على كل الأغاني. قال الضرير.
لم تغب عنهم الأوزان لكنها كانت كثيرةً جدّاً، ومتداخلة كحوار نثري طويل. كان جوق العميان يحترم ذوقي، ويتوقّف ليسمع رأيي، إن استحسنتُ رجعوا لحفلهم وإلا توقّفوا قليلاً ليغيّروا مجراه. وكنتُ سعيداً كتلميذ يكتشف قدراته النحوية بعد رسوب. يستفزّونني لأرقص أو أغنّي، لكنّي ولتيقُّني من رداءة صوتي وقبح جسدي كنت أمتنع، وأقول لهم: كُتب عليكم الغناء والرقص وكُتب عليَّ أن أقدر، الأستاذية مهنة من لا مهنة له.
وحلّ المساء وحمل معه النسيم رائحة زهر الليمون. انتشينا ومرّ العازف إلى لحن هادئ بسيط لا منعرجات فيه، وتمايلت الراقصة الهوينى، وارتفع موّال المنشد.
- كما في كل حكمة يجب أن يكون هناك بعض الحمق، في كل نزق بعض الحكمة، لأنه لا يقع إلا ما كان ضرورياً أن يقع. قال الضرير.
- إن الجسد لما يتبع الإيقاع لا يتبعه بالهوى فحسب، بل وبالإرادة، أردفت الراقصة.
- وبالقدرة، أردفتُ.
وارتفع صوت المغنّي:
"ليت الذين غابوا حضروا
وأحضروا معهم منديل الحبيب
أمسح دموع السنة".
لم أكن مع ناس عاديّين، بل مع مبدعين تتلخّص الحياة عندهم في ترويض الجسد والصوت ليعبر عن نبض الحياة بين الضرورة والحرية، بين الحتم والإمكان.
وأعجبتني فيهم قوّة اليقين في كون الفن طريق الإدراك والفهم، دون نسيان أن هناك ألف طريق.
عند المساء، اجتمعت العصافير تصخب فوق شوك الجدار تارة وأخرى فوق الأثل العملاق، الذي نعتبره نحن الحمقى هنا دار الساحرة الطيّبة تحرس الجنان وترسل العصافير كل شروق وكل غروب، وترعى كذلك الأسماك والضفادع المقدّسة، ولا تترك صاحبة السحر الأسود تقرب الأطفال.
ثم هبّت ريح فجائية ندرك نحن الواحيّين أنها تخبر بعاصفة هي الآن في الجبل وستحلّ عمّا قريب.
جمعنا الأثاث وأدخلناه لكشك البستان، وانصرفنا نغنّي:
"ليت الذين غابوا حضروا
وأحضروا معهم منديل الحبيب".
* كاتب من المغرب