مرفأُ أبي
كان أبي لا يزال شابا، وكانت بيروت لا تزال مشعّة ومعطاءة. يُبرز بطاقةَ رخصته عند دخوله المرفأ حيث يعمل، بعد أن يكون قد تعطّر وارتدى أجمل ثيابه ووضع نظاراته الشمسية السوداء، وفرشى سيارتَه الأميركية البيضاء بمقاعدها الجلدية الحمراء، وتلفّظ بجملته السحرية، جالبة الحظ وفاتحة الأرزاق، وقبّل والدتي طالبا أن تدعو له بالتوفيق، وتودّعه بابتسامة عريضة. يدخل ويركن سيّارته الأنيقة إلى جانب سيارات الرفاق، إذ ثمة رُكّاب كثر حملتهم البواخرُ والسفنُ على أنواعها، وهو سيحظى كغيره، بمن يحمله إلى خارج الميناء، وأحيانا إلى خارج البلاد، في رحلاتٍ سياحيّة قد تدوم أياما أو ساعات.
يستقبل أبي زائري لبنان على أنواعهم، ويجول بهم على المناطق السياحية، فخورا بما يرى ويُري، تماما كما كان يفعل معنا صغارا، حين يدور بنا على المناطق في الشمال والجنوب، الشوف والبقاع، مصرّا أن نتذوّق ما يميّز كل مكان، فخورا بما يمتدّ أمامه، ينخفض ويعلو، ناقلا إلينا عدوى حبّه وإعجابه بهذي البلاد. يغيب عنّا، وعن مرفئه الحبيب، ثم يعود ليخبرنا قصصا عن مدنٍ سعيدة، وقرى ضاحكة، وجبال تقارع الغيم، ويضع في أيدينا الصغيرة بقلاوة طرابلس وبرازق الشام وصفيحة بعلبك وليمون صور ...
كان مرفأ بيروت جسدَه الآخر. هناك حيث تبدأ المغامرة من جديد، فيما الرزق يزداد، والدولار يساوي ثلاث ليرات، وبيروت ترحّب بالغرباء أياً كانوا، وتستقبلهم على الأكفّ والراحات. أحيانا، يأتي بهم إلينا، فتنهض أمّي ضاحكة، مرحّبة، لائمةً إياه سرّا كيف أنه لم يخبرها مسبقا أنه آتٍ مع ضيوف، ثم تمتدّ الطاولة في سرعةٍ مذهلة، ونجلس جميعا، ماضغين ممازحين ضاحكين. كابتن كستمسون، فارعة الطول، كثيرة الأسنان؛ مجموعة البحّارة الفرنسيين الشبّان، الذين وضعت والدتي أمامهم صدر معمول العيد، فراحوا يأكلون، ويستأذنون أخذ المزيد، حتى فرغ الصدر بما فيه؛ الزائر الألمانيّ الذي وقع من على درج السفينة، فتوّرمت ركبته، وأبى إلا أن يستضيفه في المنزل، ويعالجه بلبخ الخل والملح حتى طاب؛ والسيدة الهولندية التي أضاعت خاتمها الماسيّ، فأعاده والدي إليها، فأرسلت له إثر عودتها إلى بلادها قصاصات جرائد تروي حكايتها معه. يدخلون بيتنا وقلوبنا وذاكرتنا. وإذ يغادرون، نتعانق ونتبادل العناوين، ليحمل إلينا السَّاعي، بعد أشهر، بطاقاتٍ بريدية من مرافئ العالم ومدنها، تشعرنا أن العالم متباعد الأطراف في متناول أيدينا، ما دام لنا في أصقاعه معارف وأصدقاء.
كان مرفأ بيروت كأنّه لنا، مكانا نزوره في ليالي رأس السنة، قبل أن تدقّ الثانية عشرة بقليل، مؤذنة ببدء عام جديد، فتضيء السفنُ والبواخرُ كلَّ أنوارها فوق عتمة الماء، ثم تطلق نفيرَها القوي عند انتصاف الليل، فيما نصاحبها نحن بالقفز والتصفيق والصراخ، ونمرّ به في عطل نهايات الأسبوع، ونحن في طريقنا إلى منزل عمّتيّ اللتين كانتا تقطنان حيّ اليهود في وادي أبو جميل. كان مرفأنا ذاك فتحةً على الزرقة، على الرغبة، على الآخر القصيّ، على صورتنا الجميلة عن ذواتنا، وإلا، فما الذي يجيء به إلينا لو لم يكن بلدنا متميزا، وفيه ما يستحقّ الاكتشاف؟
في زيارته الأخيرة إلى المرفأ، نجا أبي بأعجوبةٍ من رشق رصاصٍ استقرّ في إطار النافذة التي إلى جانبه. لم يكن مقتنعا أن حربا أهلية وقعت فعلا، أو أنه أراد الذهاب، مرة أخيرة، إلى رئته التي في "البور". رجوناه واستحلفناه ألا يعيد الكرّة، أن ينسى مرفأه ورفاقه وزوارا هجرونا إلى غير رجعة. مجبرًا، امتثل أبي، لكنّ شيئا فيه انكسر ومن ثم شاخ. اليوم، وقد انفجر مرفأه وتناثر وتحوّلت بيروته المشعّة إلى حطام، أرى المشهدَ القاتمَ بعينيه الدامعتين، وقد أدركتا مذّاك، أن حربنا، مهما ابتعدت، ستبقى تُغلق وتكسر وتميت.