لبنان يصنع ربيعه بيده لا بيد ماكرون
(1)
لا أحدّثك عن التاريخ البشري، ولكني أحدّثك أن تستعيد في ذاكرتك وقائع مرَّت بها بعض الشعوب، وحدّثنا التاريخ عنها، فشكلت لدى تلك الشعوب محطات مفصلية، أفضت بعدها إلى تحوّلات كبرى. ما إن تقرأ عن الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، إلا واستعادت ذاكرتك عبارة ملكة فرنسا، ماري أنطوانيت، تنصح شعبها بأكل البسكويت إن لم يجد الخبز.
وإن قرأت قصة نشوب الحرب العالمية الأولى، لقفزت إلى ذاكرتك قصة اغتيال ولي عهد النمسا، الأرشيدوق فرديناند، والتي أشعلت تلك الحرب. في بلوغ بعض الطغاة أقصى درجات الطغيان، لتشكل تلك محطةً مفصليةً تبدأ بعدها التحوّلات الكبرى. ولك أن تنظر بتمعّن إلى الذهنية الأميركية قبل عملية بن لادن في نيويورك في العام 2001، ثم إلى التحولات بعدها.
أنظر إلى كارثة عروس العواصم العربية، بيروت ، فأرى انفجاراتها قد أوصلت لبنان إلى ذلك المنعطف المفصلي الذي سيفضي حتماً إلى تحوّلاتٍ كبيرةٍ في الساحة السياسية اللبنانية.
(2)
ما إن تُذكر بيروت، في أيامنا هذي، إلا وتقفز إلى الذاكرة روح تلك المدينة الوثابة نحو الثقافة والفن ومجمل مشمولات العصرنة، ما جعل منها ذلك الأنموذج الذي تترسّم مسيرته معظم العواصم العربية. بعض إعلاميي الغرب يرونها واحة الحرية والجمال وسط فضاء مجدبٍ خال من الجمال، ومحتشد بالإضطرابات وغياب الرشد في إدارة أحوال شعوبه. لبنان الذي عرف أول الدساتير التي صيغت للحكم، ونال استقلاله مبكّرا، ومن مؤسسي جامعة الدول العربية، ما عرفت أحواله السياسية استقرارا مريحا، على الرغم من نجاحه في إقرار معادلةٍ تستصحب التنوع الإثني والطائفي. لعل السمة الغالبة لهذا التنوع تمثلت في الوجودين، الإسلامي والمسيحي، جنبا إلى جنب على مدى التاريخ القريب والبعيد في الشام، وفي لبنان خصوصا. ذلك البعد الهام في لبنان هو محور الاضطرابات التي بلغت ذروتها في حربٍ أهليةٍ دامت 15 عاما، هي من أشرس الحروب التي دارت في منطقة الشرق الأوسط.
(3)
لم تكن الحلول السياسية لإشكالية التنوّع في لبنان بالقدر الذي يتوقع أن يُفضي إلى استقرار، وإلى أمن ينعم به الشعب اللبناني. وكان المؤمل أن يتم تجاوز المعادلات الطائفية، ووفق تفاهمات تاريخية، فيصل لبنان إلى سمو الانتماء الوطني، لا الطائفي، فتتعزز قوة البلاد ويتوطّد استقرارها.
ليس أمام اللبنانيين غير خيار واحد، يقيهم ويلات الفشل والتفكك، الخروج من عباءة التفاهمات القائمة على معادلات الطوائف
التركيبة السياسية المتجذّرة في الواقع الطائفي، قد تهاوتْ تماما بعد كارثة انفجار مرفأ بيروت. تلك هاويةٌ جرى حفرها عقودا طويلة، شكل فيها العجز عن تجاوز الواقع الطائفي العقبة الكؤود التي أفشلت كل الحكومات التي توالت على إدارة البلاد. لبنان الذي يعود دستوره إلى عشرينيات القرن العشرين، لبنان الذي كان في مقدمة الدول التي نالت استقلالها وخرجت من الوصاية الفرنسية، عام 1943، يأتي إليها بعد كارثة المرفأ الرئيس الفرنسي، ماكرون، مقترحاً أن يفتح لبنان صفحة جديدة لترتيب أموره، ويعد أن يعود إلى بيروت في الشهر المقبل (سبتمبر/ أيلول) من أجل ذلك. ألهبت عباراته التي جاءت على لسانه عفو اللحظة حماس شباب لبنانيين طالبوه، في مذكرة ممهورة بتوقيعاتهم، مرحبين بعودة الوصاية الفرنسية على لبنان. وهذا غلوّ في الحماس لاستقبال ماكرون الذي كان أول رئيس لدولة كبرى يسارع بزيارة بيروت، ليتفقد حالها بعد الكارثة. لن تعد مبادرة ذلك الشباب المتحمس مطلبا جادّا، إذ أكثر اللبنانيين يملكون القدرة على الإمساك بمقدّرات بلادهم، وهم الأوْلى بترتيب أمورهم، وهم الأكثر شجاعةً على رفع شعاراتٍ تستهدف تغيير النظام اللبناني.
(4)
موجة التحوّلات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فيما عرف إعلاميا بثورات الربيع العربي، منذ 2011 وانتهاءً بثورتي السودان والجزائر الشعبيتين، صنعها حراك الشعوب نفسها، وليس أصابع أجنبية ولا تحريض خارجي. من منطلق اليأس من النظام الذي أفرزته المعادلة الطائفية، على مدى العقود السابقة الطويلة، ومنطلق الحماس لدى جيلٍ ربما لم يعش عثرات الماضي، فإن الحماس باتجاه التغيير يدفع بعضهم إلى التطلع لوصايةٍ ينالها لبنان من المستعمر السابق. ليس مطلوباً من الرئيس الفرنسي صناعة ربيع لبناني، يعيد صياغة النظام السياسي في لبنان، لا هو يملك حق ذلك الاقتراح، ولا ملكتْ فرنسا تلك الإرادة التي تتيح لها فرض وصايتها على بلد مستقل.
التركيبة السياسية المتجذّرة في الواقع الطائفي، قد تهاوتْ تماما بعد كارثة انفجار مرفأ بيروت
(5)
ليس أمام اللبنانيين غير خيار واحد، يقيهم ويلات الفشل والتفكك، وربما الاقتتال الأهلي، وهو الخروج من عباءة التفاهمات القائمة علي معادلات الطوائف التي واصلت تحكّمها بالواقع اللبناني عقودا طويلة. لا يملك أحد في الإقليم، أو في المجتمع الدولي، حق اقتراح ذلك الخيار، إلا الشعب اللبناني الذي يملك القدرة لتغيير نظامه السياسي، وقلب الطاولة على الرموز التي أوصلت لبنان إلى حوافّ الفشل والانهيار. على اللبنانيين صياغة توافقات جديدة، تبدأ من مراجعة الدستور القديم للبلاد والتعديلات التي أجريت عليه، والقوانين التي انبثقت عنه، سواء التي تمت في الطائف عام 1989، أو اتفاق الدوحة في عام 2008.
(6)
على لبنان أن لا يترك هذه السانحة التي جاءت للأسف بعد كارثةٍ أفضت إلى تدمير أجزاءٍ كبيرة من العاصمة، وألحقت الدمار بالبشر والحجر. على لبنان أن يمسك بإرادته، ويستدعي إرادة الفينيق الذي ينهض من رماده، ولبنان يعرف أسطورته، فيتوجه اللبنانيون بإرادة جادّة لتصحيح الأوضاع. وعلى الرغم من حجم الكارثة والمأساة، فإن اللحظة التاريخية الماثلة هي الفرصة الذهبية التي خرجت من دمار المرفأ، لصياغة نظام لبناني جديد، وليسمهِ الإعلام ربيعاً لبنانياً جديداً، أو نهوضاً لفينيقٍ طال رقاده في رماده، ولكن الأهم أن يتصدى اللبنانيون للإمساك بمصائرهم وبأقـدار بلادهم.