ربما كان في استطاعة أيّ أديب أن يقدّم لكلامه بالعبارة: "صدّقوني، إن ما سأرويه لكم هو من إبداع الخيال". هل نقول إن العمل الأدبي كذب صادق؟ مهما كان الأمر، فإن العلاقة القائمة بين الكاتب والمتلقي تنبني على نوع من التواطؤ، يسلّم بمقتضاه كل طرف، بأنه يقبل ما يأتي من الطرف الآخر.
إلا أن الكذب، بكل أسف، لا يبقى عند هذا المستوى "الظريف"، الذي يجعل "أعذب الشعر أكذبه"، وهو لا يظل مجرد قول"لا يقول الحقيقة"، ليغدو قولاً فاعلاً، لا يبدّل الخطاب فقط، ولا يحرّف المعاني، وإنما يحوّل الواقع ذاته. وربما كانت الحداثة مقترنة بهذا التحوّل العميق في طبيعة الكذب. ذلك ما تشير إليه حنة آرندت عندما تقول: "لم يعد الكذب تستراً يحجب الحقيقة، وإنما أصبح قضاء مبرماً على الواقع، وإتلافاً فعلياً لوثائقه ومستنداته الأصلية". لم يعد الكذب إخفاء للحقيقة، وإنما صار إتلافاً لها، لم يعد مكراً تاريخياً، وإنما غدا مكراً بالتاريخ.
كأن التعارض بين الكذب والصدق لم يعد تعارضاً منطقيا ولا حتى نظرياً، وربما لم يعد متعلقاً بمضمون القول، وإنما بمفعولاته، بما يترتب عن الأقوال من أفعال. على هذا النحو لا يكفينا الوقوف عند منطوق الكلام والاقتصار على المقول، أو حتى النظر إلى فحواه، إن نحن أردنا الحكم عليه.
هل يعني ذلك أخذ مقصد المتكلم بعين الاعتبار؟ ذلك ما يؤكد عليه المفكرون الأخلاقيون الذين يميزون الكذب عن مجرد الوقوع في الغلط، وذلك بإلحاحهم على النية في فعل الكذب. فالكذب في رأيهم هو أساساً الرغبة في خداع الغير، "حتى وإن اقتضى الأمر قول الحقيقة".
ينبني هذا الموقف على التسليم بأن الكلام خاضع لرقابة شعورية لا تكلّ، وهو لا يأخذ بعين الاعتبار أن سوء التفاهم والشعور بنيّة الخداع والكذب، ربما يتولدان من غير سوء نية. وحتى إن كان من اللازم الحديث عن سوء نية هنا، فربما لا تكفي الأخلاق وحدها لتحديده. ذلك أنه يبدو راجعاً لطبيعة اللغة ذاتها، أي لما يسميه فوكو "خبث الدليل ومكر العلامة". اللغة تقول دوماً غير ما تعنيه. فكما لو أن الحقيقة، بمجرد أن تسكن الكلام وتغدو موضع حوار حتى تفقد جزءاً من صدقها، وتكتسي رداء الكذب، أو على الأقل، تتصف بدرجة منه.
وعلى أية حال فإن أخلاق النية هاته، ربما لا تأخذ بعين الاعتبار ما آلت إليه آليات الخداع في مجتمعاتنا المعاصرة. لا أشير هنا فحسب إلى ما تتحدث عنه آرندت عندما تكشف عما قامت به مختلف التوتاليتاريات من تزوير للحقائق وغرس للكذب في العقول والمكر بالتاريخ نفسه، وإنما إلى الأكاذيب التي "أصبحت تعتبر أدوات ضرورية ومشروعة" في خدمة كل الفاعلين السياسيين مهما كانت الأنظمة التي يعملون في حضنها، كما تؤكد آرندت نفسها.
إلا أن ما يهم بالأساس هو ما أصبح يشكل في حياتنا المعاصرة نوعاً من الكذب "السلمي" "الديمقراطي" الذي لا يبدو أنه محتاج إلى "إتلاف وثائق ومستندات"، ولا حتى إلى قضاء مبرم على الواقع، وإنما صار يكتفي بتفتيت الأحداث وحلّها إلى وقائع جزئية تغيّب معناها وتذيب دلالاتها. فكأن الكذب لم يعد إتلافاً للحقيقة، وإنما أصبح إتلافا للمعنى. ذلك أننا لم نعد اليوم عاجزين عن تصديق ما يقع أو تكذيبه، وإنما أصبحنا عاجزين عن "فهمه" واستيعابه. هذا بالضبط هو الشكل الجديد للكذب الذي أصبحنا نعيشه، والذي تكرّسه وسائل الإعلام الحديثة التي تعمل على تغييب الواقع، فتلاحق تطوّرالأحداث لتجعل منها راهناً دائماً، ووقائع جزئية لا تنفك تتلاحق، وتجعلنا عاجزين، لا على تمييز الصدق من الكذب فحسب، وإنما حتى عن تبيّن الدلالات، وإدراك المعاني.
* مفكر من المغرب