فوضى الإعلام التونسي

04 ديسمبر 2015
+ الخط -
كان من الطبيعي أن تشهد البلاد التونسية، بعد دخولها الزمن الديمقراطي، حالة من الانتشار الإعلامي الواسع، تمثل في ظهور عشرات وسائل الاتصال السمعي البصري، بالإضافة إلى عدد كبير من الصحف الورقية والمواقع الإلكترونية، بشكل جعل المشهد الإعلامي يعاني من فوضى غير محسوبة، أو محددة، ويجد مثل هذا الأمر تفسيره بحصول نوع من الانفجار الإعلامي، بعد سنوات عجاف من الكبت والمنع، زمن حكم الاستبداد.
وقد جاءت القرارات الأولى الصادرة بعد الثورة التونسية، والتي سعت إلى تنظيم قطاع الإعلام في إطار المحافظة على الحريات والحق في التعبير عن التعددية الفكرية والسياسية، وهو ما نص عليه الفصل الخامس من المرسوم 116 الصادر في 02 /11/ 2011، والذي أكد ضرورة ممارسة الحريات الإعلامية، ضمن ضوابط تحترم كرامة الإنسان وحياته الخاصة، وعدم التعدي على حرية المعتقد، أو تهديد الأمن الوطني والنظام العام. وقد تم إقرار كل هذه الحقوق في دستور ما بعد الثورة، وفي الوقت نفسه، تم تشكيل ما تعرف بالهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، بوصفها مؤسسة دستورية تعديلية، تعنى بمتابعة المشهد الإعلامي، والتنبيه إلى التجاوزات، وتحميل كل طرف مسؤوليته القانونية، في حالة حصول إخلالات تمس الميثاق العام لشرف مهنة الإعلام.

غير أن أخطاء الإعلام التونسي لم تتوقف، وظلت تتراكم بصورة تدعو إلى الاندهاش، فإذا كانت الإخلالات التي شهدتها فترة ما بعد الثورة تجد لها مبرراً، بالنظر إلى أن حالة الانتقال الديمقراطي وحالة الحرية الواسعة التي عرفها المشهد العام قد جعلت وسائل الإعلام تنطلق في كل الاتجاهات، وتقترف الأخطاء والتجاوزات، فإنه يمكن تسجيل أخطاء إعلامية حاصلة، ترتقي الى مرتبة الخطايا، خصوصاً في تناول قضايا تمس السلم الأهلي، وتهدد المسار الديمقراطي، وحالة التعايش والانسجام الاجتماعيين، المطلوبة لإنجاح كل مسيرة ديمقراطية ناشئة في بلد مثل تونس.
ويمكن تصنيف هذه التجاوزات على تنوعها ضمن سياقاتٍ محددة، حيث يمكن ملاحظة وجود نمط من التعامل الإعلامي المتشنج، وغير المسؤول، مع قضايا كثيرة، وإذا كانت وسائل إعلامية تتصرف بمقتضى الإثارة، لحصد مزيد من المتابعة الجماهيرية، فإن بعض الصحف والقنوات التلفزيونية والإذاعية انخرطت، وبنية مضمرة، ضمن مسار إفشال التحول الديمقراطي، بشكل أو بآخر، خصوصاً التي ظلت تعيد إنتاج خطابات مكررة، منذ زمن الاستبداد. والغريب أن بعض القنوات الحكومية لازال بعضها يعمل ضمن هذا التوجه العام، وكأن رياح الثورة لم تصل إليه بعد، حيث لم تدرك أهمية التحول من وسائل دعائية حكومية، تسبح بحمد الحاكم المطلق وحزبه، إلى مؤسسات تخدم الشعب، وتقوم بدور توعوي وتنويري. ويمكن، في هذا السياق، ذكر أخطاء مهنية فادحة أقدمت عليها القناة الحكومية، مثل نقلها صورة رأس الراعي المقطوع على يد مجموعة إرهابية، الأمر الذي أثار ردود أفعال كثيرة منددة، وأجبرت الحكومة على التدخل، وإقالة الرئيس المدير العام للتلفزيون التونسي.
وعلى الرغم من أنه من غير المقبول أن يتواصل تدخل ذوي الحكم في شؤون أهل الإعلام، فإن المؤسسة الرسمية في ذاتها بدت عاجزة عن تطوير خطابها وآليات عملها، والتحول إلى جهاز تواصلي أكثر مهنية وموضوعية ومصداقية، يراعي التعددية. وفي الوقت نفسه، لا يخدم أجندات محددة، أما الوسائل الإعلامية الخاصة، وبالنظر إلى ولاءاتها المتعددة، سواء لأصحاب المال والأعمال، أو خدمتها أجندات سياسية غير واضحة المعالم للعموم، فقد بدت، في أحيان كثيرة، تتحين الفرص لإثارة الهلع ونشر الأكاذيب (راجع العنوان الكبير الذي نشرته يومية الشروق في 26/11/2015، حين اتهمت أحد أعوان الحرس الوطني بأنه الانتحاري المسؤول عن العملية الإرهابية في العاصمة، وهو أمر انكشف زيفه لاحقاً). والغريب أن هذه الصحف، وعلى الرغم مما تروجه من دعايات وأخبار زائفة، لا تكلف نفسها عناء الاعتذار من متابعيها، بل وتتعامل مع الأمر بنوع من اللامبالاة وعدم الاهتمام، ويمكن، بجردة حساب بسيطة، ومن متابعة منحنى أداء وسائل الإعلام التونسية، إثر الحادث الإرهابي الأخير، لنلاحظ، ببساطة، الكم الهائل من التحريض، والحض على العنف، ونشر ثقافة الكراهية، من خلال التركيز على قضيتين مركزيتين، وبطرق مختلفة، تتعلق أولاهما بإثارة نوع من الحنين إلى زمن الاستبداد، والحديث عن أولوية الأمن على الحرية، وأن الإرهاب لا يمكن التعامل معه، إلا من خلال منطق المنع والحظر. أعني التضييق على التعددية، وإلغاء هامش الحريات المكتسب بعد الثورة، متناسية أن دول الاستبداد هي التي شهدت أكبر منسوب من العنف الدموي في المنطقة، وأن زمن المخلوع بن علي نفسه لم يكن يخلو من عمليات عنيفة، وغاية في الدموية (عملية جربة 2001 وأحداث مدينة سليمان 2006). والقضية الثانية تركيز جهات إعلامية على تجريم الثورة، وترذيل التحول الديمقراطي وكأنه سبب الإرهاب، والعامل الذي فتح المجال، لكي تقوى جماعات العنف، ويشتد عودها في مغالطة فجة للرأي العام.
إن فوضى المشهد الإعلامي في تونس، وعلى الرغم من وجود هيئات رقابة دستورية، وقوانين منظمة للعمل الإعلامي، مازالت مستمرة، وتعيد إنتاج أخطائها الفادحة، من دون حسيب أو رقيب، غير أن هذا النقد الذي يتم توجيهه للأداء الإعلامي لا يعني، بأي حال، دعوة إلى إحداث قوانين زجرية، أو منع الإعلام من أداء مهامه، وإنما، وعلى النقيض تماماً، ما من حل لفوضى الإعلام إلا مزيد من الحرية، وفسح المجال أكثر لذوي الكفاءة والقدرة، لتصدر المشهد الإعلامي، لأنه، في النهاية، سيكون البقاء للأجدر والأصلح، فالعملة الجيدة ستطرد العملة الرديئة، عاجلا أو آجلا.






B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.