مساحات آمنة للانتخاب

28 يوليو 2024
+ الخط -

يكشف لنا عام 2024 واحدةً من أعظم المفارقات السياسية في عصرنا. فمن ناحيةٍ، يشهد العالم عاماً انتخابياً تاريخياً. ومن ناحية أخرى، تشهد الديمقراطية تراجعاً ملحوظاً وغير مسبوقٍ بفعل سلسلة الانقلابات المتتالية التي عرفتها القارّة الأفريقية خصوصاً، إذ جرت (وستجري) انتخابات في 76 دولة، بما في ذلك ثمانٍ من الدول العشر الأكثر اكتظاظاً بالسكّان: الهند والولايات المتّحدة وإندونيسيا وباكستان والبرازيل وبنغلادش والمكسيك وروسيا. وشاركت دول الاتحاد الأوروبي الـ27 في انتخابات البرلمان الأوروبي. من الناحية النظرية، ينبغي أن يكون هذا العام بمثابة انتصارٍ للديمقراطية، ومن الناحية العملية، فإنّ خُطَّافاً واحداً لا يصنع الربيع، فالديمقراطية لا تقتصر على إجراء الانتخابات فحسب.

الديمقراطية تتآكل داخلياً بتراجع القيم والممارسات الديمقراطية، وبضعف الدفاع عن الحقوق المدنية، وهو ما يُوصَف بأنّه "إرهاق ديمقراطي"

ومن بين 76 دولة في الانتخابات، لا تستوفي 28 دولة الشروط الأساسية للتصويت الديمقراطي، وهي أنظمة ذات نكهة استبدادية، فيمكن التلاعب بالانتخابات أو تأجيلها باستمرار، كما هي الحال في بنغلادش، أو إنّها مُجرّد خدعة تهدف إلى توفير قشرة ديمقراطية لحكومة استبدادية بالكامل، كما هي الحال في مصر. بدأ تراجع التحوّلات الديمقراطية في عام 2016، وأصبح حادّاً، ولا سيّما منذ عام 2019، وتفاقم بسبب انخفاض الحقوق والحرّيات في أثناء وباء كورونا، وتزايد حالات النزاع المُسلّح، وتصاعد الانقلابات الدستورية والعسكرية. إذا لم يكن علينا بأيّ حال أن نختصر الديمقراطية في إجراء بسيط لانتخاب الرئيس والمجلس النيابي، فإنّه في العكس من ذلك، لا توجد نماذج ديمقراطية بديلة في الممارسة السياسية تستغني عن مثل هذا الإجراء.
ومع ذلك، لا يكفي مُجرّد وجود إجراء انتخابي لإثبات رسوخ الديمقراطية، ويجب الاحتكام لمعاييرَ أوضح بشأن الظروف التي يُمارِس فيها المواطنون خياراتهم الانتخابية، التي تستند أساساً إلى نموذج النظام التعدّدي، الذي يرتكز على ضمانات مُؤسّسية تميّز الديمقراطية الانتخابية، وأكثرها أهمّية انتخاب القادة من الشعب، والتكرار، وحرّية التصويت والتعبير، والوصول إلى المعلومات الرسمية، وحرّية تكوين الجمعيات وشمولية المواطنة. إنّ هذه الشروط كلّها، النظرية اللازمة لانتخابات ديمقراطية، لا تتوافر في الأحوال جميعها، ففي ظلّ الأنظمة شبه السلطوية يجد المواطن نفسه أمامَ حالةٍ من التنازع السلطوي بين الحاكم الذي يرغب في الاستمرارية، في مقابل المعارضة التي تحاول أن تخلفه. ولنا في النموذج السنغالي درس سياسي بليغ، حيث تمكّن مُرشّح المعارضة، باسيرو ديوماي فاي، من إزاحة الرئيس السابق ماكي سال، الذي حاول مجاوزة الدستور والبقاء في كرسي الحكم.
وتشهد دولة أفريقية أخرى، هي تونس، انتخابات رئاسية في ظلّ وضع سياسي مُتقلّب. لقد شهدت البلاد انتخابات حُرّة سنتي 2014 و 2019، ولكنّها توازياً، عرفت حالة من التآكل الديمقراطي، وحدث هذا التآكل جزئياً من أعلى، أي من خلال الإجراءات التي اتّخذها الرئيس قيس سعيّد، المُنتهية ولايته في يوليو/ تمّوز 2021، والتي حلّت البرلمان وألغت دستور 2014، واعتُمِد دستور جديد. لكنّ الديمقراطية تتآكل أيضاً من الداخل، من خلال تراجع القيم والممارسات الديمقراطية وضعف الدفاع عن الحقوق المدنية من المواطنين، وهو ما يُوصَف أحيانًا بأنّه "إرهاق ديمقراطي"، ومن بين عوامل الموجة الاستبدادية خيبة أمل ديمقراطية معيّنة مُرتبطة بالعجز الملحوظ للنظام الديمقراطي عن الوفاء بوعوده.
وفي ظلّ الملابسات التي تُرافق بداية الحملة الانتخابية، وانطلاق المُرشّحين المُحتمَلين في جمع التزكيات من أجل الإيفاء بالشروط التي حدّدتها السلطة، يبقى السؤال عن المساحات الممكنة للدعاية والنشاط في مواجهة الرئيس، الذي يرغب في عهدة جديدة. في المقابل، تعاني المُعارَضة تبايناً واضحاً في المواقف بين الداعين إلى المشاركة، رغم المعوقات كلّها، وأنصار المقاطعة. وإذا كانت فكرة المشاركة تقوم على أساس استغلال المساحات الآمنة والممكنة للتغيير، فإنّ المقاطعة تثير مشكلاً مركزياً بشأن فعّاليتها في المدى القصير استراتيجيةً انتخابيةً، ولا سيّما عندما تُؤدّي إلى تعطيل النضال السياسي والاكتفاء بمشاهدة الوضع السياسي وهو يتغيّر. ومع ذلك، يمكن للمقاطعة أن تكون مُفيدةً في المدى الطويل، اعتماداً على كيفية استخدامها وتوازن القوى الحالي.

في المجتمع الديمقراطي، يجب أن يكون لجميع المواطنين الحقّ في تحدّي القرارات السياسية ومحاسبة أولئك الذين يتّخذونها

تظلّ الانتخابات الحرّة جوهر أيّ مُمارَسة ديمقراطية حرّة، إذ علينا أن نسأل أنفسنا ماذا سيحدث إذا أزلنا أو قلّلنا بشكل كبير من إمكانية انتخاب المواطنين لقادتهم؟... في الواقع، قد يُؤدّي ذلك إلى حرمان هؤلاء المواطنين فرصة المشاركة في الحياة العامة والتأثير في القرارات السياسية، التي تكون في متناول الجميع من دون أيّ شرط آخر غير كونهم مواطنين، وهذا من شأنه أن يحرمهم بطبيعة الحال تجربة اجتماعية مشتركة عاشوها في وقت واحد بطريقة مُتكرّرة ومنتظمة خلال وجودهم؛ تجربة الحملة الانتخابية والتصويت الذي يختتمها. ففي المجتمع الديمقراطي، يجب أن يكون لجميع المواطنين الحقّ في تحدي القرارات السياسية ومحاسبة أولئك الذين يتّخذونها، ويضمن الانتخاب هذه المُساءلة لجميع المواطنين، ويمنح كلَّ فردٍ منهم سلطةَ الرقابة والمنافسة.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.