غزّة بين الجامعات الغربية والعربية
كان حراك الجامعات الأميركية، الذي دشّن موجة الاحتجاجات الطلابية المُتضامنة مع غزّة في الغرب، حدثاً لافتاً، على الأقلّ، في ما يخص الشارع العربي الذي اعتاد تصوّراً نمطياً عن الغرب، والولايات المتّحدة خصوصاً، بوصفها رمزاً للشر المحض، من دون تفصيل أو تمييز بين القوى المتصارعة واتجاهات الرأي المختلفة، التي تشقّ المجتمع الأميركي، والغرب عموماً.
للنشاط السياسي بين الطلاب في الجامعات الغربية تاريخ طويل. كانت المُنظمّات الطلابية اليسارية في الولايات المتّحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا مرتبطة أو تعمل بوحي من الأحزاب السياسية الموجودة في عالم "الكبار": الحزب الديمقراطي، الأحزاب الاشتراكية أو الشيوعية. من المُؤكّد أنّ المنظّمات الشبابية واجهت، في أحيان كثيرة، أزمات وانشقاقات مع إشراف "الكبار"، لكنّ هذه الانشقاقات أدّت إلى ظهور مجموعات طلابية حرّة ومستقلة، إذ يلعب الطلبة دوراً سياسياً خارج إطار الأحزاب الكلاسيكية.
لم يكن سهلاً أن يصل الطالب الأميركي والغربي عموماً إلى مستوىً من الوعي يمكّنه من رؤية حقيقة الصراع الحاصل في الشرق الأوسط
وتفرز هذه المجموعات قادة التحرّكات الجماهيرية الطلابية الكبيرة، الذين يحشدون جهودهم حول قضايا دولية عادلة (الفصل العنصري، حرب فيتنام، قضايا البيئة، وصولاً إلى قضية فلسطين) بقدر اهتمامهم بالقضايا الأكاديمية، ولكن، بمعنى نقد المجتمع ومعارضة الأحزاب اليسارية التقليدية، وبالتأكيد؛ مناهضة العولمة والإمبريالية.
لم يكن سهلاً أن يصل الطالب الأميركي، والغربي عموماً، إلى مستوىً من الوعي يمكّنه من رؤية حقيقة الصراع الحاصل في الشرق الأوسط، في ظلّ حجم الدعاية الصهيونية التي تهيمن على المشهد الأميركي، وهذا ما يجعل قيمة هذه الاحتجاجات مضاعفة، من جهة أنّها تُمثّل تحدّياً للسردية الصهيونية المُهيمنة منذ عقود، وفي الوقت نفسه، محاولةً لكشف العوامل الحقيقية للصراع الحاصل في فلسطين، بوصفه حرباً بين الاحتلال والمقاومة، وليس "إرهاباً أعمى"، كما يحاول الإعلام الصهيوني تسويقه. كان واضحاً أنّ الحراك الطلابي في الجامعات الغربية يتحرّك ضمن سياق عام يربط بين مناهضة العولمة والدفاع عن سكان غزّة، فالدعم الهائل، الذي تُقدّمه حكومات الدول الغربية للكيان الصهيوني، إنّما هو جانب من النزاع الأكبر بين الإمبريالية، التي تسعى إلى مزيد من الهيمنة، وفي سياق رغبتها في حماية الأقلّية المُسيطِرة مستعدة لتبرير كلّ أشكال العنف، بما في ذلك أعمال الإبادة الجماعية، فيما تُمثّل المقاومة في غزّة جانباً أساسياً من المقاومة العالمية، التي تجمع طيفاً واسعاً من المُضطهدين في العالم.
في مقابل حيوية الجامعات الغربية، وتحرّكاتها المتواصلة دفاعاً عن أهل غزّة، تغرق الجامعات العربية في حالة من السبات واللامبالاة، رغم أنّ القضية الفلسطينية حاضرة في الشارع العربي، إلّا أنّ الحركة الطلابية العربية خارج سياق الأحداث تماماً. في ظلّ عدوان مستمر منذ ثمانية أشهر، جاءت تحرّكات الجامعات العربية مُحتشمةً ومناسباتية، وبعضها جاء تحت ضغط الأخبار الواردة من الغرب. فمستوى وعي الطالب العربي يظهر وكأنّه أقلّ إدراكاً لطبيعة الحرب الحالية وأهميتها في تقرير مصير القضية الفلسطينية برمّتها، فالجامعات العربية دخلت في العقد الأخير، منذ خفوت وهج الثورات الشعبية، حالة من الخنوع ربما لم تشهد لها مثيلاً، فأنظمة الاستبداد العربي تدرك أنّ ضبط الشارع، ومنعه من الانفجار، مجدّداً، يقتضي قبل كلّ شيء تحييد الفئة الشبابية، وتحويل الجامعات مُجرّدَ حاضناتٍ مدرسية منفصلة عن الواقع السياسي والاجتماعي للبلاد، وعن قضايا الأمّة عامة. ورغم أنّ الحرب على غزّة مثّلت فرصةً لإعادة انبعاث الحركة الطلابية العربية من رمادها، إلّا أنّ عوامل القصور الذاتي الناجمة عن التجفيف المُتعمّد لمنابع العمل السياسي والحزبي في الجامعات، كان لها أثرها الواضح في ضعف التحركات الطلابية في الجامعات العربية، وهي في هذا مُجرّد انعكاس لشارع عربي عجز عن التعبير عن مشاعر التأييد الجياشة، التي لا تَخفى، وتجلّت غالبيتها في حملات التبرع، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، ولكنّها، قطعاً، لم تكن في المستوى المأمول عندما تعلّق الأمر بالنزول إلى الشوارع.
عوامل القصور الناجمة عن التجفيف المُتعمّد لمنابع العمل السياسي في الجامعات العربية كان لها أثرها في ضعف التحركات الطلابية
شكّل العدوان على غزّة (حرب فيتنام هذا الجيل) دافعاً للتعبئة السياسية والجماهيرية في صفوف الطلبة، على الأقلّ في الغرب، حيث انتشرت خطابات مناهضة للكيان الصهيوني، وأخرى مُؤيّدة لفلسطين، بأشكال مختلفة، لقد أعادت الحرب على غزّة تنشيط التقليد الطلابي الثوري، إذ تجمع قضية فلسطين بين الاحتجاجات الأكاديمية والاجتماعية والنضالات السياسية والنضالات المدنية، ومع ذلك، إذا كانت معارضة الحرب تُوحّد العقول، وتشكّل فرصة للتنسيق بين الحين والآخر، فإنّها لا تجمع المُنظّمات الطلابية بطريقة دائمة. أمّا في المنطقة العربية، فقد أظهر هذا العدوان حالةً من التراجع الثوري في الشارع العربي، عموماً، والجامعات خصوصاً، ويبدو أنّ الأنظمة قد نجحت في تحجيم تحرّكات الشارع وضبطه في إطار حملتها المُستمرّة لقمع أيّ نفس ثوري، طالما شكّلت القضية الفلسطينية قادحاً له، غير أنّ هذا الصمت لا يعني نهاية المطاف، فلا أحد يدري متى تنفجر الأوضاع مجدّداً، وربّما بشكل يتجاوز كلّ التوقعات.