عن الإعلام العمومي في تونس

04 مارس 2017

صحف في تونس.. الصحافة الرسمية تتراجع (6/9/2015/فرانس برس)

+ الخط -
جاءت التصريحات التي خصّ بها الرئيس التونسي، ومن بعده الحوار المطوّل لرئيس الحكومة، قناتين تلفزيونيتين خاصتين، لتطرح السؤال بشأن سر ابتعاد أعلى هرم السلطة السياسية في البلاد عن التصريح للتلفزيون الرسمي بقناتيه. ويعيد بعضهم هذا التوجه إلى فكرة أن القنوات الخاصة أصبحت أكثر مشاهدة وحضورا لدى الرأي العام التونسي مما تمثله وسائل الإعلام الرسمية. 

ويلاحظ المتابع خط سير أجهزة الإعلام الرسمية التونسية، بمختلف تلويناتها (تلفزيونا وإذاعات وصحفا) أنها نشأت في الأصل جزءاً من الإعلام الدعائي، المرتبط بنظام الحكم. حيث ظلت تسوّق للسياسات الرسمية، ولم تتوقف عقوداً، وإلى حدود نجاح ثورة 2011، عن ترويج الخطاب الرسمي، وإدخال الرسائل والصور النمطية إلى وعي الناس قسرا، وهي الرسائل والصور التي تتوافق مع توجهات الحزب الحاكم والرئيس الواحد ذي الصلاحيات المطلقة. وحينما كان التلفزيون الرسمي الأداة الوحيدة المهيمنة على الشارع، تحول إلى سلاح خطير في يد النظام الشمولي الذي ظل مهيمنا على البلاد، عبر أجهزة الحزب والأمن طوال عقود، غير أن التطورات التكنولوجية الجديدة، وظهور موجة القنوات الفضائية، وانفتاح الفضاء الإعلامي، أدى إلى كسر هذا الاحتكار الرسمي، الأمر الذي دفع نظام بن علي، في حينه، إلى البحث عن سبل لمواجهة الضخ الإعلامي القادم عبر الفضاء. وشكّل منح ترخيص لأول إذاعة خاصة (موزاييك)، ثم أول قناة تلفزيونية خاصة (حنبعل) حدثا مهما في حينه. وعلى الرغم من ظهور إذاعات أخرى، وقناة خاصة ثانية، غير أن التلفزيون الرسمي ظل على احتكاره قضايا السياسة وتغطية القضايا المهمة، والمصدر الوحيد لمتابعة النشاطات الرئاسية والحكومية، ولم يكن في وسع القنوات الخاصة سوى الاكتفاء ببرامج الألعاب والغناء وبث المسلسلات المكسيكية والتركية، مع تخصيص حيّزٍ لا بأس به، للثناء على الرئيس وقيادته الرشيدة والحكيمة.
وعند اندلاع شرارة الثورة، في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، تجاهل الإعلام الرسمي 
تماما ما يجري في الشارع، وظل ينكر بوقاحةٍ كل الأخبار التي توردها القنوات المستقلة، مثل قناة الجزيرة، عن تحركات جماهيرية تجري في الشارع التونسي، أما القنوات الخاصة، فهي بطبيعتها كانت بعيدةً عن الشأن السياسي، ولا يمكنها الخروج عن السياق العام والضوابط التي حدّدها النظام الشمولي السائد حينها.
بعد الثورة في تونس، حصلت طفرة إعلامية واضحة، فتعدّدت القنوات التلفزيونية والإذاعات الخاصة، غير أنه على الرغم من هذا الانفتاح الإعلامي الهائل، لم تتمكّن القنوات الرسمية من مجاراة التحولات بشكل سريع، بل ظلت هذه القنوات تراوح مكانها، من حيث غياب المهنية أو القدرة على تقديم الإضافة الإخبارية المميّزة، والأغرب من هذا أن التلفزيون الرسمي تحوّل إلى إحدى قلاع الثورة المضادة بالفعل، حيث كانت تغطيته فترة حكم الترويكا وعداؤه المبالغ فيه، وغير المبرر أحيانا، للرئيس السابق المنصف المرزوقي، تثير أكثر من نقطة استفهام حول طبيعة الإدارة التي يخضع لها فعليا. وإذا كان الأمر لا يتعلق، في مجمله، بانعدام الكفاءات في الإعلام الرسمي التونسي، فإنه من الأكيد أن كثيرين من مقدمي البرامج يفتقرون إلى الخبرة في تقديم البرامج الحوارية، والتي تتضمن آراء سياسية متناقضة، بالإضافة إلى تورط بعضهم في نوع من الانحياز المكشوف ضد ضيفٍ دون آخر (في حوار مع الرئيس السابق المنصف المرزوقي خلال بث مشترك بين قناة فرانس 24 والقناة الرسمية التونسية لم تخف المذيعة التونسية انحيازها ضد الضيف، وتشنجها الواضح بشكلٍ أفقدها مصداقيتها أمام الجمهور).
ويتمتع الإعلام الرسمي في تونس بدعم مالي مهم، إلى حد تخصيص جزء من أجور استهلاك الكهرباء التي يدفعها المواطن لصالح التلفزيون الرسمي بشكل ربما لا نجد له نظيرا في دول أخرى. على الرغم من أن التحولات الإعلامية التي تجري في تونس تفرض مراجعة مثل هذا الخيار، حيث إن شروط المنافسة تقتضي أن تحاول القنوات الرسمية الاعتماد أكثر على قدراتها من أجل تحقيق موارد ذاتية.
ويمكن القول إن الإعلام الرسمي تراجع دوره في تونس بشكل واضح إثر الثورة، فالقناة 
الرسمية الثانية، مثلا، لا تحظى تقريبا بأي متابعةٍ جماهيريةٍ، وهو أمر ينطبق بالتأكيد على الصحيفة الحكومية التي تصدر يوميا، على الرغم من أنها تفتقر إلى أدنى شروط القدرة على استجلاب القراء، أو التأثير في المشهد الإعلامي. وهو أمر يفرض على الأوساط الرسمية في تونس مراجعة السياسة الإعلامية الرسمية، سواء بالتحكّم في حجم الإهدار المالي الحاصل من دون مردودٍ، يناسب الإنفاق الحاصل، أو من حيث إعادة هيكلة هذه الأجهزة العمومية، ومراجعة طرق عملها، وتطوير كفاءة العاملين فيها، إلا أنه يبدو أن المسألة تتجاوز الرغبة في الإصلاح نحو البحث عن الإلحاق والسيطرة من خلال سياسة التعيينات الرسمية لمسؤولي هذه الأجهزة. وهذا ما نلاحظه من خلال الخطوات التي اتخذها حزب نداء تونس، إثر وصوله إلى السلطة، وتعيين مجموعة من الموالين له على رأس هذه المؤسسات، من دون مراعاة لمنطق القدرة أو الكفاءة.
سيظل سؤال الجدوى يرافق الأجهزة الإعلامية الرسمية في تونس، في انتظار أن تخضع لعملية إصلاح تام، ومراجعة شاملة لطرق عملها، ومدى فاعليتها لتتحول من إعلام السلطة إلى مرحلة الإعلام الشعبي، لتنطبق عليها بالفعل تسمية إعلام عمومي.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.