عن استقلالية القضاء في تونس

05 مارس 2017
+ الخط -
 القضاء ركن متين من أركان قيام الدول واستمرارها، باعتباره الجهاز المكلف بضمان الحقوق والواجبات، والمعني بتحقيق التوازن بين الحاكم والمحكوم، وترتيب أسباب التعايش بين الناس، وفض التنازع بينهم. وكلما كان القضاء مستقلا نزيها، كان السلم الاجتماعي مستتبا، والشعور بالمواطنة والمساواة حاضرا، وعلى القضاء المعوّل في تحقيق العدالة وتدريب المواطنين على احترام القانون. وتعمل السلطة القضائية في الدول الديمقراطية المتقدمة في كنف الاستقلالية، وتربطها بالسلطتين، التنفيذية والتشريعية، علاقات تعاون وتواصل، لا علاقة هيمنة أو إتباع أو تنافر. والمراد التمكين للعدل وتسويد القانون في تنظيم أحوال المجتمع المدني.

وقد عانى القضاء في تونس قبل الثورة من هيمنة السلطة التنفيذية، ومن سعي الحزب الحاكم ومؤسسة الرئاسة إلى تدجين القطاع، وتوظيفه لخدمة مصالح النظام الاستبدادي، والتشريع لممارساته القمعية، فجرى استخدام القضاء لتكميم الأفواه وللتنكيل بالمعارضين، وزجّهم في غياهب السجون بإصدار أحكام قاسية في حقهم. ولم يمنع ذلك قضاة شرفاء من رفض الانصياع لـ"تعليمات" القصر الرئاسي والنظام البوليسي في تلك الفترة، وهو ما كلفهم التجميد في الرتبة أو الإحالة على مجلس التأديب.
وكان المتوقّع بعد الثورة أن القضاء التونسي سيمارس صلاحياته في كنف الاستقلالية التامة في ظل قيام الجمهورية الثانية، وصوغ دستور تقدمي توافقي، أعلى من قيمة القضاء، وأكّد ضرورة توفير الشروط المناسبة ليؤدي القضاة دورهم في إقامة دولة الحق والواجب، فقد جاء
في الفصل 102 من الدستور أن "القضاء هو السلطة المستقلة التي تضمن إقامة العدل وعلوية الدستور"، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات. وفي ذلك تأكيدٌ من المشرّع على دور مؤسسة القضاء في إرساء أركان الدولة العادلة، بما يقتضيه ذلك من احتكام إلى القانون، وتفعيل للدستور، وتكريس للمساواة، وهو دور يستوجب "حجر التدخل في القضاء" (الفصل 109) وعدم المس باستقلاليته، غير أنّ تحويل منطوق الدستور في الدعوة إلى إصلاح مؤسسة القضاء وتعزيز دورها في بناء الدولة المدنية إلى واقع مشروع تعترضه عقبات عديدة. لعل أهمها عدم التسريع في إنشاء الهياكل الداعمة استقلالية القضاء، وميل بعض الأطراف إلى إخضاع هذه المؤسسة إلى السلطة التنفيذية، فقد كان من المفترض، بحسب ما نصّ عليه الدستور، أن تبادر السلطة السياسية، في أجل أقصاه ستة أشهر من تاريخ إجراء الانتخابات التشريعية (أكتوبر 2014)، إلى إرساء المجلس الأعلى للقضاء، وأن تقوم، في ظرف سنة من التاريخ نفسه، بإحداث المحكمة الدستورية. وهما هيكلان أساسيان في تأمين استقلالية القضاء، وضمان دستورية القوانين، لم يكتب لهما الظهور والفاعلية إلى اللحظة. فقد تم تجاوز المدة المنصوص عليها، في الخصوص، في خرق واضح للمدونة الدستورية، وأثر غياب النواب، وعدم اكتمال نصاب لجنة التشريع العام، والتجاذب السياسي في تعطيل تفعيل دورهما فى إقامة دولة القانون والمؤسسات.
وفي أثناء الحملة على الجماعات الإرهابية، أصبح القضاء موضوع اتهام في منابر إعلامية
تروج خطاب اعتبار القضاء الحلقة الأضعف في مقاومة الإرهاب. ورفع إعلاميون ومنتسبون إلى النقابات الأمنية في هذا السياق شعار "الأمن يشد والقضاء يسيّب". والمراد أن الأجهزة الأمنية تلقي القبض على المتهمين بالإرهاب، في حين أن القضاء يعمد إلى الإفراج عنهم. وجاء ذلك على خلفية إطلاق قاضي التحقيق سراح عدد من المشتبه بهم في قضايا إرهابية، بعد أن تبين له أنّهم أدلوا باعترافاتهم تحت التعذيب، ولا وجود لدليل قطعي يثبت ضلوعهم في مخططاتٍ إجرامية. وفي مقام آخر، دانت منظمات نقابية وأطراف مدنية إصدار القضاة أحكاما مشدّدة في شأن محتجّين ارتكبوا أعمال عنف، وقطعوا الطريق، وألحقوا أضرارا جسيمة بالمرافق العامّة والممتلكات الخاصّة، وجرى تحشيد وسائل الإعلام للضغط على القضاء لتخفيف الأحكام. وفي سياق متّصل، دخلت نقابات الأطبّاء في إضراب عام للاعتراض على إصدار قاضي التحقيق بطاقة إيداع بالسجن في حق طبيبة متهمة بتقصير مهني، أدّى إلى وفاة مولود في عهدتها، ما دفع القاضي إلى مراجعة قراره والإذن بالإفراج عنها بعد ثمان وأربعين ساعة من الأمر بإيقافها.
وتكمن خطورة هذا التوجه في التعامل مع القضاء في أنه يستبطن التشكيك في جهد القاضي في طلب الحقيقة، ويعجّل في اتهامه بالتقصير، ومطالبته بتزكية القرارات الأمنية والنقابية بطريقة ارتجالية، وهو ما يُعدّ تدخّلا سافرا في عمل القاضي، وطعنا في مصداقيته واستقلاليته، وتشويشا على جهده في البحث والتمحيص. ويُخشى من أن يتحول الخوف من الإرهاب، ومن الاصطفاف القطاعي للمهنيين، إلى مطية يتم ركوبها لإخضاع القضاة لإملاءات الأجهزة التنفيذية وقوى الضغط، وهو من أبواب عودة دولة المحاباة، يتعارض مع مطلب استقلال القضاء ومبدأ الفصل بين السلطات في الجمهورية الثانية.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.