عن إعادة كتابة تاريخ تونس

05 ابريل 2017

من جلسات لجنة الحقيقة والكرامة في تونس (16/12/2016/فرانس برس)

+ الخط -
تبني الأمم تاريخها على التّدريج، وتشكّل كينونتها الحضاريّة بتراكم جهود الفرد والجماعة في الإبداع والنّضال على مرّ الزّمان. وذاكرة الأمّة هي مستودع أخبارها وديوان أيّامها، ومعين وجودها الذي ينهل منه الخلف عن السّلف. ويُعتبر نضال المجتمعات من أجل التّمدين والتّحرير والاستقلال وكسب السّيادة وتقرير المصير، ومن أجل إعلاء حقوق الإنسان من أنبل أشكال النّضال التي عرفها الاجتماع الإنساني، وخلّدها التّاريخ البشري. فدفع الظّلم وردّ المستبدّ ومكافحة المستعمر أفعال عظيمة، تُفاخر بها الشّعوب، وينجزها مناضلون تعلّقت هممهم بالشّوق إلى الحرّية، والعدالة، والكرامة التي بذلوا في سبيلها الجهد والمال والوقت، بل بذلوا في سبيلها أنفسهم، وكابدوا الصّعاب في بلوغ المراد، فدقّوا أبواب الحرّية بأياد مضمّخة بالدّماء، وفكّوا أغلال الأسر عن النّاس، وقارعوا المستعمر بنفوس أبيّة، وواجهوا الأنظمة الشموليّة بإرادةٍ لا تلين، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. ومنهم من أنصفه التّاريخ، ومنهم من طاوله النّسيان والتشويه.
والواقع أنّك إذ تفتح الذاكرة الوطنيّة التونسية الحديثة، تتبيّن أنّ كثيرين ممن صنعوا مجد البلاد، وعبّدوا الطّريق إلى الحرّية، وسطّروا السّطور الأولى في سِفْر الاستقلال، ودفعوا أعمارهم، بل حياتهم في سبيل الوطن، قد تناستهم الذّاكرة الجمعيّة وغيّبهم التّاريخ الرّسمي (الأزهر الشرايطي، الأخوان حفّوز، عبد الرحمان مامي، عمر الصيد... ). وما فتئت الإرادة السياسية بعد الثّورة تراوح مكانها في فتح ملفّات الماضي وتحديد المسؤوليّات، وإنصاف المظلومين،
وإعادة الاعتبار إلى مناضلين غيّبتهم الدّولة القامعة، وأصرّت على تصفيتهم تاريخيّا، وجدّت في الحرص على محو أيّ أثر لهم في الذّاكرة الوطنيّة، فالدولة الشمولية بعد الاستقلال لم تكتف بتعذيب معارضيها وتشريدهم وتوزيعهم بين المقاصل والسّجون والمنافي، بل كانت أيضا حريصةً على تشويههم، وتقديم صورة غير واقعيّة لنضالاتهم، فتحوّل المحتجّ إلى مخرّب، والمناضل إلى متمرّد، وتمّت شيطنة كلّ معارض للحاكم بأمره، وجرى تهميش معظم "الفلاّقة" المقاومة المسلّحة للاستعمار الفرنسي، وتقزيم الحقوقيّين، والمدافعين عن الشغّالين على مدى عقود من حكم الحزب الواحد، وتمّ اختزال نضالات شعب، بمختلف أطيافه الفكريّة والسياسيّة، في شخص الرئيس الحبيب بورقيبة الذي استأثر بمكسب التّحرير، وبصفة الزعامة، واختزل الوطن في شخصه، قائلا "تونس هي أنا"، فتمّ إخراج تاريخ الحركة الوطنيّة على النّحو الذي يرضى، وفُصّل الماضي والحاضر على النّحو الذي يريد. ولم تكن حقبة حكم الجنرال زين العابدين بن علي بأفضل حال، فقد واصل مسيرة سلفه، مؤسّسا لعصر قمع منهجي، وظلم مبرمج، وتهميش مقصود للجيل الأوّل من المناضلين في الحركة الوطنيّة، وتجاوز ذلك إلى تصفية خصومه إعلاميّا وسياسيّا وجسديّا.
ولمّا قامت هيئة الحقيقة والكرامة، في أثناء اشتغالها على مشروع العدالة الانتقالية، بفتح ملفّات الماضي، والكشف عن معطيات حفّت بالمقاومة المسلّحة (1952ـ 1954)، وبحدث الاستقلال وبمستجدّات الصراع بين بورقيبة وصالح بن يوسف (جلسة الاستماع العلنية 24 مارس/ آذار2017)، واجهت هجمة إعلامية شرسة، وبلغ الأمر ببعضهم درجة تخوينها واتّهامها بالتحزّب، والسعي إلى إثارة الفتنة، والعمل على تقسيم التونسيين، والإساءة إلى رموز الاستقلال. والحال أنّ الهيئة لم تتجاوز حدود الاستماع إلى شهادات بعض الذين عايشوا تلك الفترة، ممن على قيد الحياة، وأخبروا بالتباين الحادّ في مستوى موقف الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف من الاستقلال الداخلي (1955)، ومن محتوى وثيقة الاستقلال التامّ (1956). وما استتبع ذلك من إقدام النظام البورقيبي على اعتقال عدد كبير من المقاومين واليوسفيين 
والتنكيل بهم في معتقلات (غار الملح، وبرج الرومي، وصبّاط الظلام، ...)، وهو ما دفع بعضهم إلى التخفّي أو الهروب من البلاد، خصوصا بعد اغتيال صالح بن يوسف (1961) وإعدام عدد من الفلاّقة، في مقدّمتهم الأزهر الشرايطي، بدعوى محاولتهم الانقلاب على النظام البورقيبي (1962)، ولا يعرف مصير رفاتهم إلى حدّ اللحظة. وتلك الشهادات، بما حملته من تفاصيل، يضيق بذكرها المقام، تقتضي التمحيص والتدقيق، وتبقى رافدا حيّا مهمّا من روافد التوثيق لتلك المرحلة. وتهجّم بعضهم على هيئة الحقيقة والكرامة، لإتاحتها فرصة الاستماع إلى تلك الإفادات راجع إلى أنّهم يتعاملون مع التاريخ الرسمي على أنّه نهائي، لا يحتمل المراجعة والمساءلة، والحال أنّه تاريخ كتبه الأقوياء. والظاهر أنّ المتحاملين على الهيئة يعتبرون الحبيب بورقيبة شخصية مقدّسة، منزّهة، فوق النقد، والحال أنّ الرجل قد أصاب وأخطأ في أكثر من موضع. والمرجّح أنّ هؤلاء يجدون حرجا في مكاشفة الذات، وفي تقصّي الحقيقة، ويهربون من الاحتكام إلى الموضوعية والعدالة في توصيف الفاعلين التاريخيين في تلك المرحلة من سيرة تونس، لأسباب فئوية وأيديولوجية وجهوية وحزبية شتّى.
وأحرى بأهل الاختصاص، وقد حرّرتهم الثورة من سطوة الدكتاتورية وعسف الرقيب، أن يعيدوا النظر في تاريخ تونس الحديث والمعاصر بعينٍ موضوعيّة، وبمقارباتٍ عقلانية، تنأى عن الجلد والتمجيد، وعن الانحياز لطرفٍ على حساب آخر، وذلك طلبا للحقيقة.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.