عسكرة لبن الأطفال

09 سبتمبر 2016
+ الخط -
لا أدري لماذا استحضرت تلك الصورة التي انتشرت على الحافلات والأتوبيسات في مصر، ووضعتها الشؤون المعنوية للقوات المسلحة، وكتب تحتها "الشعب والجيش إيد واحدة". كانت الصورة لضابط في القوات المسلحة يحمل طفلاً، والإشارة الرمزية في المشهد أن الضابط يمثل الجيش، بينما الطفل يمثل الشعب، بما يتضمن ذلك من إيحاءات خطيرة في التصور، أن الجيش الراشد والشعب الطفل، وأن الضابط في وضع حنو على الطفل، والطفل المحمول بين يدي الضابط، الجيش القادر الراشد والطفل غير القادر الرضيع، صورة تعكس تصور الشعب طفلاً صغيراً والضابط الحامل شعبه بين يديه. صورة انتشرت برعاية الشؤون المعنوية في كنفها، وبأمرها شيعت على وسائل اتصال الشارع ملصقات على السيارات والأتوبيسات.
ولا أدري لماذا استحضرت خطاب عبد الفتاح السيسي "نور عينينا" المفعم بفائض الكلام وزخرف القول الذي يستخدم في خطابٍ ليّنٍ، يخفي وراءه التلويح بالسلاح والقتل خارج إطار القانون والمطاردة والاختطاف القسري. وذلك كله كأفعال وسياسة ممنهجة وبغطاء خطاب "نور عينينا" الذي لم يعد ينطلي إلا على قلةٍ آثرت أن تعيش في الوهم، تحت تأثير "حالة فنكوشية" شاعت وذاعت، وصار هذا الخطاب الممجوج لا يؤتي أثراً مع حالة غلاء طاحنة، وتهديدات مباشرة لمعاش الناس، لا تهدّد فقط معاشهم، بل تهدّد كيانهم. لا يستطيعون لذلك دفعاً، تأتيهم الأخبار يومياً عن فرض ضرائب جديدة من كل لون، تلقي على كاهل المواطنين بأعباء على أثقالهم، حال يحاصرهم ويضيق عليهم، بينما أهل السلطة يتنعمون ويترفون، وينفقون ببذخ مستفز ومستخف.
ولا أدري لماذا استحضرت خطاب اللواء محمود نصر عن "عرقنا"، وهو مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية وعضو المجلس العسكري الفائت، مشروعات القوات المسلحة المصرية، في ندوة عقدها المجلس العسكري بعنوان "رؤية للإصلاح الاقتصادي" في مارس/ آذار 2012، رداً على انتقاداتٍ من خبراء اقتصاديين بشأن هذه المشروعات، والمتعلقة أساساً بغياب المنافسة العادلة والشفافية، في إشارة إلى مشروعات القوات المسلحة التي سيقتل من يقترب منها، للتعبير عن دولةٍ فوق الدولة، جمهورية الضبط المستقلة، أما جمهورية الشعب فليس إلا ذلك الطفل الصغير المحمول من ضابط القوات المسلحة.
وبدا التدليس المركّب في هذا المقام من خلال صورة المنقذ المتعلقة بالجيش، وفي تغوّل الجيش في التحكم في امبراطورية اقتصادية، بحيث صار المقاول الأكبر والمالك المتغول، تجده في مجال المستشفيات والصحة، وحتى مدارس التعليم، ومطابخ المدن الجامعية، والإنشاءات والعقارات، واستيراد التكييفات، وإعادة بيعها بعد ضمان بيئة احتكارها، إلا أن الأمر فاق كل خيال وتصور، حينما شاع خبر إنقاذ الجيش بعرضه لبن أطفالٍ للخروج من أزمةٍ عمّت وطمّت، وألقت بظلالها "الطفل الرضيع" مرة أخرى.
بين صورة الطفل الرضيع وعرقنا ولبن الأطفال تقع المعضلة، تأميم الشعب وعسكر البيزنس، 
والتغول على كل مجالات الحياة، صارت المشكلات والأزمات تجير لمصلحة بيزنس العسكر على نحو خطر يحمل كل أشكال العسكرة، يتحول المجتمع إلى معسكر كبير، ويتحول العسكر إلى مالك وتاجر متغول، يصل الأمر إلى صناعة الاحتكار. ويخرج علينا أحد النواب، وقد شهدت القطاعات، الصحية والتعليمية والتموينية، أزماتٍ كثيرة. الجيش هو الحل، تظهر أول البوادر الخطيرة في عسكرة وزارة التموين، بتعيين لواء سابق كان مشرفاً على قطاع الإمداد والتموين في القوات المسلحة، لتكون خطوة على طريق عسكرة المجتمع والحياة، وصناعة صورة تحكم الإدراك والرؤى الذهنية، المدنيون فاشلون والعسكر منقذون، العسكر قادمون إلى كل مكان في كل ساحة ومساحة.
هنا، لا بد أن نشير، من حيث أراد هؤلاء، أن يصدّروا صورة العسكر هم الحل، العسكر هم المنقذ، العسكر في كل مكان، الشعب الطفل الرضيع، لما لا "فليتعسكر حتى لبن الأطفال". وحينما اندهش الناس لدخول مساحة البيزنس في لبن الأطفال، خرج علينا المتحدث العسكري ينفي، لكنه، في جوهر بيانه، أثبت وتورط، فيقول "القوات المسلحة ليس لديها أي عبوات مخزنة (من لبن الأطفال)"، و"تهيب القوات المسلحة المواطنين بعدم الانسياق وراء تلك الشائعات، والحملة المغرضة التي شنتها شركات استيراد الألبان"، متناسياً أن وزير الصحة في الحكومة الرسمية أعلن ذلك في مؤتمر صحافي في مقر الوزارة، فما موضع الإشاعة المغرضة والحملة المدبرة. ثم يقول في البيان إن القوات المسلحة "تقوم بضرب الاحتكار الجشع بالاستيراد بأسعار مخفضة"، فهل هذا هو عملك أو دورك أم أنها السبوبة، على الرغم من أن لدينا هيئة حكومية مستقلة، اسمها "جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية"، مسؤولة عن تطبيق القانون 3 لسنة 2005، وهو ما تصل فيه عقوبة الاحتكار إلى غرامة 300 مليون جنيه، والمفروض لدينا أيضاً جهاز حماية المستهلك الذي يرأسه الآن اللواء عاطف يعقوب، ومن أدواره أن يضبط ويعاقب الشركات المحتكرة، أو التي تغالي في الأسعار. يعني لواء صارت كل مهمته اتهام المستهلكين، وتبيكتهم لا حمايتهم.
ولدينا شركة حكومية تستورد ألبان الأطفال منذ عشر سنوات لصالح وزارة الصحة، عندها خبرة كبيرة في المجال، وقدرات تخزين هائلة، وأسطول ضخم من سيارات التوزيع ومقراته.. لو المطلوب كسر احتكار القطاع الخاص، لماذا لا يتم عبر الشركة الحكومية؟ جهات كثيرة في الدولة هذه وظيفتها، وعملها حل أزمة لبن الأطفال ومختلف الأزمات المدنية، فهل للجيش أصلاً تدخل في القطاع التجاري البحت الذي ليس له علاقة بأزمة اللبن المدعوم أساساً.
اضطر المتحدث الرسمي للقوات المسلحة، في محاولةٍ لتهدئة الغضب الشعبي، إلى نشر بيان ينفي فيه وجود ملايين العبوات لدى القوات المسلحة. وزعم أن الجيش سيبدأ استيراد لبن الأطفال، مهيباً بالشعب عدم تصديق الإشاعات التي تسعى إلى النيل من نبل مقصد القوات المسلحة، وهل يستطيع أي موقع إخباري في جمهورية مصر العربية أن يذيع خبر توفير القوات المسلحة ثلاثين مليون عبوة من اللبن المدعم فوراً، من دون موافقة مسبقة من القوات المسلحة على إذاعة هذا الخبر؟ وعلى فرض كذب الخبر، هل من الممكن تواتر جميع المواقع على إذاعة هذا الخبر مصادفة؟ وهل كانت القوات المسلحة لتمرّر هذا الأمر من دون عقاب؟ هذا تساؤل مشروع سألته إحدى الصحافيات كسؤال بدهي، فهل من إجابة. قالت كاتبة المقال بحق "تسميتون في الدفاع عن عرق القوات المسلحة، فمن يحمي عرق الشعب؟"، وأشار صحافي مرموق إلى "من يهين الجيش في هذه القصة؟".
يا سادة، تحافظون على عرق الجيش، وتستخفون بمعاش الشعب وعرقه. تعسكرون الحياة حتى في لبن الأطفال، ما دفع بعضهم ساخراً أن يسميه "لبن العسكور"، ألا ساء ما تحكمون! اتركوا الحياة المدنية لأهلها والتجارة لأصحابها، والسياسة المدنية لقواها وشعبها، عودوا إلى ثكناتكم، ويسقط .. يسقط .. حكم العسكر.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".