خيانة معاني نشيد الوطن

22 ابريل 2016
+ الخط -
حدث في واحدةٍ من أنشطةٍ وفاعلياتٍ قمت بها في الزيارة العلمية والتواصل مع الجالية المصرية في الولايات المتحدة، أن أحد أفراد الجالية، ويملك صوتاً قوياً ورخيماً، دعا إلى إنشاد النشيد الوطني المصري، مستعرضاً مفرداته وكلماته. وحينما تأملت الكلمات والمعاني، وجدت أمراً خطيراً يعبر عن أن النظام الانقلابي صار يعزف هذا النشيد على طريقته، يفعل بسياساته عكس المعاني ونقيض المغازي، فبدلاً من ترجمتها حقيقة واقعة، حوّلها إلى مجرد كلماتٍ لا يقف على مبانيها، فضلاً عن معانيها السامية والسامقة. مثلت تلك السياسات والمواقف الانقلابية حالة انقلابٍ في المعاني، وخيانة حقيقية لكل مغزىً يحمله النشيد، أو يشير إليه.
صرت أتدبر المعاني، وتذكرت أنني كتبت مقالة عن خيانة المنقلب القسم ومعانيه، وأنه غدر بالكلمات وخان معانيها، المعنى تلو الآخر، والمفردة في سياق أخواتها، وتأملت معاني النشيد، كما تأملت معاني القسم من قبل، ووجدت إشاراتٍ بالغة الخطورة في التبديد الانقلابي للمعاني، مع الإبقاء على مباني الكلمات، من حيث الشكل، لكنها بقيت جوفاء، فرّغها الانقلاب والمنقلب من قيمتها وقيمها وقوامها، مصر المكانة بما تعلقت به من سؤالٍ جوهري حول المكان والمكانة؛ أين مصر الآن بين الأمم؟ مصر النيل، مصر الأرض المقدرات والموارد والثروات، مصر الحرّة، مصر والعدو، مصر المواطنة والكرامة، مصر الوحدة والجماعة الوطنية والوطن. وطافت في ذهني، وأنا على بعد آلاف الأميال عن وطني وموطني، في حالة غربة إجبارية عن أرض الوطن، بدت مؤشرات الغدر بالكلمات وخيانة المعاني بادية لكل ذي عينين.
تدور كلمات النشيد الوطني الذي ألفه محمد يونس القاضي، ولحنه سيد درويش الذي كان ذا روابط وعرى وثيقة مع قادة الحركة الوطنية، وقد اشتق نشيد مصر الحالي من كلماتٍ ألقاها مصطفى كامل في إحدى أشهر خطبه عام 1907، وهذه كلماتها: "بلادي بلادي لك حبي وفؤادي.. لك حياتي ووجودي، لك دمي، لك عقلي ولساني، لك لُبي وجناني، فأنت أنت الحياة.. ولا حياة إلا بك يا مصر".
نشيد بلادي الذي من المفترض أن أحبه مثل حبي الوطن، مراتٍ كنت أفيض حنيناً عند سماعه، ومراتٍ أخرى كان يذكّرني بمدى نفوري من واقع بلدي الفاسد، ولم تستطع الأناشيد الثورية البديلة أن توصلنا إلى برّ الأمان، كما وعدتنا. كلامها الفضفاض الذي دغدغ مشاعرنا، وربما سلب عقولنا فترة ما، كان أكبر من واقعنا، كان حلماً لا يصلح في الزمن الذي عشناه ونعيشه. بدأت بالاستماع معها إلى النشيد، رفعتُ الصوت عالياً، استعدتُ جواً كان بعيداً عني. بدأت أدندن كلمات النشيد مع منشديه، جعلتني أتأكد أن الهوية والانتماء لا يمكن استبدالهما ببساطة، وأن حب الوطن يصعب تفسيره، ولا تقتله المسافات، ها هي كلماته:
بلادي بلادي بلادي/ لك حبي وفؤادي. مصر يا أم البلاد/ أنت غايتي والمراد. وعلي كل العباد/ كم لنيلك من أيادي. مصر يا أرض النعيم/ فزت بالمجد القديم. مقصدي دفع الغريم/ وعلي الله اعتمادي. مصر أنت أغلى درة/ فوق جبين الدهر غرة. يا بلادي عيشي حرة/ واسلمي رغم الأعادي. مصر أولادك كرام/ أوفياء يرعوا الزمام. سوف نحظى بالمرام/ باتحادهم واتحادي. بلادي بلادي بلادي/ لك حبي وفؤادي.
فماذا عن مفردات مفتاحية في هذا النشيد الوطني المصري؟ مكانة مصر في عبقرية مكانها
ومقامها، تظلم مصر حينما يحكمها الأقزام مرتين، مرة بتدّني مكانتها وأخرى في عدم استثمار مكانتها، فتصير مصر أضحوكة الأمم ومحطاً لسخريةٍ من هنا أو هناك. كان جمال حمدان يشير الى الفارق بين الموضع والموقع، وكان يذكّرنا دائماً بعبقرية المكان الذي يشكل طاقةً محتملةً في بناء المكانة وصناعتها، فعبقرية المكان ليست مجرد هبة مجانية، بل إدراك عميق بمكنون المكان والقدرة على تحويله إلى مكنة ومكانة وتمكين، إدراك مكين وعمل رصين.
أين إذاً ذهبت المكانة، بفعل هؤلاء الذين بدّدوها من كل طريق، ولم يحسنوا إدراكها أو استثمارها، مصر الأزمات والكوارث، مصر المتدنية في حقوق الإنسان والشفافية، ولها مرتبة متقدمة في الفساد وأعداد أحكام الإعدام. من يملكون القرار فيها يفرّطون في كل ما هو استراتيجي. فرّطنا في غازنا في ترسيم حدود في المتوسط بين مصر وقبرص واليونان، فرطنا في مياه النيل في اتفاقية سميت اتفاقية المبادئ، فرّطنا في جزيرتين استراتيجيتين على نحو فج وفاضح، يوحي بالتفريط والتبديد.
أين هي "أم البلاد" التي صارت محل سخريةٍ، بفعل سياسات من تصدّروا إلى واجهة حكمها، أين نيلها الذي له من أيادي الخير والنماء، بعد أن فرّط هؤلاء في حصة مصر المائية، ودخول الوطن في حالٍ من الشح المائي، لاستخدامها مياهاً للشرب، أو مياهاً للزراعة والري؟ أين أرض النعيم التي أفقرت عن عمدٍ بسياسات فاشلة، بعد أن توقف الإنتاج، ونضب معين السياحة، وغلت الأسعار، وارتفع الدولار، وتوارى الجنيه وقلّت قيمته الشرائية؟ أين أولاد مصر الكرام الممتهنون على أرض مصر وخارجها، كرامة تهان، ونفوس تزهق واعتقالات مجنونة بتهم ملفقة، بعضها لا يمكن تصديقه. أين بلادي التي تعيش حرة؟ وقد صارت مصر المحبوسة في سجن كبير، بعد أن كان يطلق عليها مصر المحروسة، أين معاني الوطن والوطنية، وطنية زائفة يصدّرها النظام في شعاراتٍ جوفاء في حب مصر، وأغلبها تجمعات في نهب مصر، وتحيا مصر وهى تقتل أبناءها وفلذات أكبادها، كيف تحيا مصر، ويموت شبابها، كيف تحيا مصر وكل إنجازات حكومات الانقلاب في بناء سجونٍ جديدةٍ، تسع مزيداً من المعتقلين، ومتحصلات سياسات البطش والعدوان.
أين هو المرام الذي سنحظى به، باتحادهم واتحادي، وقد قسم هؤلاء الشعب الواحد إلى أكثر من شعب، وزرعوا بذور الكراهية والفرقة والانقسام بين جماعةٍ وطنيةٍ، تباهت يوماً ما بتماسكها ولحمتها؟ أين الوحدة والاتحاد في كيان قسم بدم بارد، يمكن أن يوصل البلاد والعباد إلى حافة الحرب الأهلية والاقتتال؟ أين مفهوم العدو الذي غيم عن عمد، لتمرير ظواهر التطبيع، كما يفعل المتصهينة الذين يبرّرون، وربما يحمون، مصالح الكيان الصهيوني، ويرمون المقاومة للعدو الصهيوني بكل نقيصةٍ واتهام، ويحاصرون أهل غزة العزة ومقاومتها، ويحكمون الحصار عليها، أين؟ وأين؟ ....، فهل ضاعت مكانة الوطن وكرامة المواطن، وانقلب العدو حليفاً ومحاضن الأمن الاستراتيجية أعداء؟
يا هذا، ألا ترى قبح فعلك ومآلات عملك؟، خنت بالأمس قسماً حلفته بأن تحترم الدستور، وأن تحفظ الوطن وسلامة أراضيه، فاغتصبت سلطةً وعطلت دستوراً، وانقلبت على مسار ديمقراطي، وهدّدت سلامة أرض الوطن. واليوم تكمل مسيرة الزيف والغدر وخيانة النشيد الوطني ورمزية معانيه، فضيعت الأمانة، وبدّدت المكانة، وامتهنت للمواطن كرامةً، وبعت أرض الوطن.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".