05 نوفمبر 2024
حرب المناهج الدراسية في الأردن
بعد أن تركت الحكومة الأردنية أزمة المناهج التربوية تتدحرج في الشهور الماضية، وهي تتفرّج عليها، من دون تحريك أي ساكن، انفجرت أخيراً بعدما انتقلت الاحتجاجات من مواقع التواصل الاجتماعي الافتراضية إلى الميادين الحقيقية، أي المدارس نفسها، واتخذت صوراً متعددة، وبعثت رسائل شرسة إلى الدولة، غير مسبوقة، ففي مدارس عديدة، أحرق طلاب وأولياء أمور الكتب المدرسية الجديدة. وفي مدارس أخرى، تمّ تصوير مئات الطلاب في صفوف الصلاة في ساحات المدارس، ردّاً على ما اعتُبر محاولة إزالة "الهوية الإسلامية" من الكتب المدرسية، وتجرّأ معلمون على رفض تدريس الكتب الجديدة، وأعاد أولياء أمور الكتب إلى وزارة التربية والتعليم، ووصلت الأمور إلى مرحلة "كسر عظم" بين الوزارة والتيار المحافظ العام المحتجّ على المناهج.
خرج وزير التربية والتعليم، ذو الخلفية الإسلامية، محمد ذنيبات، في الأسبوع الماضي، ليقدّم أخيراً رواية الحكومة في ما يتعلق بالتعديلات على الكتب المدرسية، وردّ على اتهاماتٍ كثيرة طاولت المناهج والكتب المدرسية، وبدا كأنّه كسب جولة مهمة في المعركة الإعلامية، وأنّه يقف على أرضٍ صلبة، وصحبه في المؤتمر الصحافي، وزير الإعلام محمد المومني، الذي أراد إيصال رسالةٍ أخرى للمجتمع، أنّ الدولة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام الاحتجاجات وأنّها ستواجه من أحرقوا الكتب أو تجاوزوا السقوف القانونية والتقليدية في عملية الاحتجاج.
لم تدم ساعة الانتصار الحكومية كثيراً، إذ سرعان ما أصدرت نقابة المعلمين بياناً مفصّلاً في التعديلات الجديدة التي من الواضح أنّها تركّزت في تخفيف حمولة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والدلالات الدينية في الكتب المدرسية المختلفة، اللغة العربية والكتب العلمية وغيرها، ما عزّز شعور التيار العام باستهداف "الهوية الإسلامية" للتعليم، فاشتعلت المعارك مجدّداً، فيما بدأت الحكومة جولة جديدة للردّ على الحملة إعلامياً.
ذلك باختصار ملخّص التطورات الدراماتيكية في ما يتعلّق بالكتب المدرسية والتعديلات، التي أدخلت عليها. ولكن، لا يمكن فهم هذه التطورات من دون قراءة أحداث وتفاعلات سبقتها، أعادت صياغة الحالة الثقافية والمجتمعية الأردنية بصورة كبيرة، غير مسبوقة، وتقع تحت عنوان عريض، هو الشرخ المجتمعي المتنامي بين نخبة من المثقفين العلمانيين (يساريين وليبراليين وقوميين) والتيار المحافظ الواسع في البلاد، وليس فقط التيار الإسلامي الذي تعتبر ردود فعله "محدودة" مع الردود الأخرى العنيفة رمزياً ومعنوياً من شريحةٍ اجتماعيةٍ واسعةٍ من المواطنين.
لم يشهد الأردن، سابقاً، هذا الشرخ الحادّ المرتبط بالدين والثقافة العامة، فعادةً ما كانت هنالك "منطقة وسطى"، تقف عليها أغلبية المجتمع. لكن، مع الأحداث في سورية، وانقسام المجتمع تجاهها، ثم الانقلاب العسكري في مصر، وبروز التيار الإسلامي، ولاحقاً صعود "داعش" في المنطقة، وما حدث في الموصل مع المسيحيين والأزيديين، كان ذلك كله يحفر بعمق في هواجس (ومخاوف) الفئات الاجتماعية المختلفة، العلمانيين واليساريين ونخبة من الليبراليين والمسيحيين، وانتقل إلى الخطاب السياسي والإعلامي، عبر دعواتٍ إلى الحدّ من "الموارد" التربوية والمجتمعية التي يتغذى عليها تيار متعاطفٌ مع تنظيم داعش صاعد في الأردن.
ومع ارتفاع وتيرة المواجهة بين الأردن و"داعش" إقليمياً ومحلياً، بداية من عملية حرق الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، مروراً بمواجهاتٍ بين الأمن ومجموعة مؤيدة للتنظيم في إربد (شمال)، ثم قتل أحد مؤيدي التنظيم أفراداً من المخابرات العامة، وعملية نفذها أحد أعضاء التنظيم على الحدود الأردنية السورية، من الخارج، أدت إلى قتل أفراد من الجيش والأمن، عزّز ذلك كله المناخ العام ضد التنظيم، الأمر الذي استثمرته نخبة من الليبراليين واليساريين، فبدأت تدعو، بوضوح أكثر، إلى تغيير المناهج التعليمية، والتخلص مما اعتبرتها "مواد داعشية"، تغذّي ثقافة التطرف والعنف.
لم يستجب وزير التربية والتعليم لتلك الدعوات، وبدت الوزارة في "حالة إنكار"، ثم تغيّر الموقف الرسمي بصورة مفاجئة، وبدأت تتسّرب مقتطفات من التغييرات التي أجرتها الوزارة على الكتب المدرسية، جزء كبير من التسريبات غير دقيق، وهدف إلى تهييج الرأي العام، ما أحدث مناخاً عاماً قلقاً من وجود أجندةٍ رسميةٍ مرتبطة بالدعوات السابقة، تستهدف المضمون "الإسلامي" في الكتب المدرسية، مما انعكس على الحملات الانتخابية، وأصبح جزءاً من السجال العام في البلاد. جاءت أحداثٌ أخرى لتعزّز حالة الانقسام والتوتر الاجتماعي، عندما اعتقلت السلطات أمجد قورشة، أستاذ الشريعة في الجامعة الأردنية، ثم ناهض حتر، الذي أعاد نشر رسم كاريكاتوري، اعتبره كثيرون استهزاءً بالذات الإلهية، ولاحقاً اغتيال حتّر، وهو مسيحي يساري، كانت له مواقف معادية بشدة للإسلاميين ومؤيدة لنظام بشار الأسد، مما أثار قلقاً للمرّة الأولى من بزوغ حساسيات "مسلمة- مسيحية". وهكذا توالت التطورات التي تكشف عن تحوّل اجتماعي، بدأ يتجذّر، ويتمثل في حالة الشرخ على أسس هوياتية وثقافية بين نخبةٍ من اليساريين والليبراليين وتيار مجتمعي عام تغلب عليه سمة المحافظة الدينية.
ارتبط الانشقاق الاجتماعي، إن جاز التعبير، أولاً بالتطورات الإقليمية، ثم انتقل إلى الداخل، بدأ عبر ترويج "فزاعة داعش" من نخبةٍ متخوفةٍ من الإسلاميين، أصبح لديها هاجس انزياج المجتمع والثقافة الاجتماعية إلى التطرّف الديني، ثم برز رداً على هذه الدعوات، وخشيةً منها، خصوصاً في ما يتعلق بالكتب المدرسية، هاجس "الهوية الإسلامية" لدى الشريحة الاجتماعية العريضة.
خلال تلك التطورات، ومع تدحرج كرة الثلج، لم تحرّك الحكومة ولا مؤسسات الدولة ساكناً، لتعرّف أين تقف من هذه الصدامات والمواجهات الافتراضية (على شبكات التواصل الاجتماعي) وفي المجال العام، ولم تتدخل لتعيد تأطير النقاش في سياقه المطلوب، بل الطريف أنّ الدولة اختبأت بعد موجة الاحتجاجات وراء عباءة "أساتذة الشريعة" والقادة الإسلاميين في المجتمع، في محاولةٍ للتخفيف من شعور استهداف "الهوية الإسلامية"، وعمد وزير التربية والتعليم إلى استحضار آياتٍ كثيرة، ربما بعدد التي حذفت من الكتب المدرسية، ليؤكّد أنّه لا يستهدف الهوية الإسلامية، ولم يطفئ ذلك من نار القلق المجتمعي، ولم ترعب تهديدات وزير الإعلام المتخوفين من التعديلات، باستخدام "العين الحمراء" ضد الاحتجاجات، فانطلقت في اليوم التالي إذاعاتٌ، بعضها محافظ دينياً وأخرى منوعة، لمهاجمة التعديلات، والتأكيد أنّها تستهدف "الهوية الإسلامية".
لاحقاً، وصف منسق حركة ذبحتونا (معنية بأمور الجامعات والتعليم العام)، فاخر دعاس، المشهد بأنه "انتصر الذنيبات (وزير التربية والتعليم) على نقابة المعلمين، وخسرت الحكومة معركة تعديلات المناهج ... بـ "النقاط". فاستخدام المعلمين سلاح الدين في مواجهة تعديل المناهج سهّل من مهمة الذنيبات، حيث استخدم السلاح نفسه في الرد عليهم. ويُعرف عن الدنيبات استمتاعه في استخدام هذا السلاح، بل ويعتبره ملعبه الرئيسي. وكان مؤتمره الصحافي بمثابة إعلان رسمي عن فشل "الهجمة الليبرالية على المناهج"، ابتداءً بالخطاب الديني الذي استخدمه الذنيبات، مروراً بالحجج والبراهين "الدينية" التي واجه بها منتقدي التعديلات، وانتهاءً بالتملص من تصريحات نائب رئيس الوزراء، جواد العناني، بأن التعديلات تأتي لتخفيف التطرّف في المناهج المدرسية، حيث اعتبر الذنيبات هذه التصريحات "رأياً شخصياً، ولا تمثل الحكومة". وكان مسك ختام هذا الفشل الحكومي كتاب وجهه الوزير الذنيبات الأربعاء إلى إدارات المدارس، بتقديم مقترحاتهم وآرائهم حول التعديلات الأخيرة على الكتب المدرسية كونها "طبعة تجريبية".
واعتبر أحد أقطاب الدعوة إلى تعديل المناهج والتخلص من "الداعشية" فيها، ذوقان عبيدات، التعديلات سطيحة، وإساءة لفكرة تغيير المناهج، لكنه في المقابل أقرّ بأنّ "البعد الإسلامي" لم يُحذف منها، بل أضيف البعدان الوطني والإنساني، وتمّ تخفيف حجم الكتاب المدرسي، وهو أمر جيّد، على حدّ تعبيره.
بدأت نخب سياسية وفكرية تتنبّه إلى خطورة "الشرخ" الثقافي المجتمعي غير المسبوق، سواء من الاتجاه الليبرالي أو حتى الإسلامي، فصرّح أحد أبرز قيادات جبهة العمل الإسلامي، زكي بني ارشيد، بأنّه لا تعارض بين الإسلام والدولة المدنية، ثم كتب مقالاً في موقع "الجزيرة نت"، عن الدولة المدنية، وأنّها ليست ضد الدين بل الاستبداد، فيما وجّه الوزير والسفير الليبرالي الأسبق، مروان المعشّر، كلاماً واضحاً، في محاضرة له على هامش معرض عمّان الدولي للكتاب، حول المضمون نفسه؛ أي أنّ الدولة المدنية ليست ضد الدين، بل ضد الاستبداد، وأنّ زعيم حزب النهضة التونسي، راشد الغنوشي، أعلن إيمانه بها، وتابع المعشر قائلاً: مجنون من يفكّر باستبعاد الدين من المجال العام.
هل ستنجح محاولات تخفيف حدّة التجاذب والاحتقان، وتبريد الهواجس المتبادلة "الداعشية" في مقابل "الهوية الإسلامية"؟ أم سنجد أنفسنا أمام تجذّر أكبر لاحقاً لذلك، مما ينذر بانتقال عدوى الانقسامات المحيطة، في مصر وسورية إلى المجتمع الأردني؟
خرج وزير التربية والتعليم، ذو الخلفية الإسلامية، محمد ذنيبات، في الأسبوع الماضي، ليقدّم أخيراً رواية الحكومة في ما يتعلق بالتعديلات على الكتب المدرسية، وردّ على اتهاماتٍ كثيرة طاولت المناهج والكتب المدرسية، وبدا كأنّه كسب جولة مهمة في المعركة الإعلامية، وأنّه يقف على أرضٍ صلبة، وصحبه في المؤتمر الصحافي، وزير الإعلام محمد المومني، الذي أراد إيصال رسالةٍ أخرى للمجتمع، أنّ الدولة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام الاحتجاجات وأنّها ستواجه من أحرقوا الكتب أو تجاوزوا السقوف القانونية والتقليدية في عملية الاحتجاج.
لم تدم ساعة الانتصار الحكومية كثيراً، إذ سرعان ما أصدرت نقابة المعلمين بياناً مفصّلاً في التعديلات الجديدة التي من الواضح أنّها تركّزت في تخفيف حمولة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والدلالات الدينية في الكتب المدرسية المختلفة، اللغة العربية والكتب العلمية وغيرها، ما عزّز شعور التيار العام باستهداف "الهوية الإسلامية" للتعليم، فاشتعلت المعارك مجدّداً، فيما بدأت الحكومة جولة جديدة للردّ على الحملة إعلامياً.
ذلك باختصار ملخّص التطورات الدراماتيكية في ما يتعلّق بالكتب المدرسية والتعديلات، التي أدخلت عليها. ولكن، لا يمكن فهم هذه التطورات من دون قراءة أحداث وتفاعلات سبقتها، أعادت صياغة الحالة الثقافية والمجتمعية الأردنية بصورة كبيرة، غير مسبوقة، وتقع تحت عنوان عريض، هو الشرخ المجتمعي المتنامي بين نخبة من المثقفين العلمانيين (يساريين وليبراليين وقوميين) والتيار المحافظ الواسع في البلاد، وليس فقط التيار الإسلامي الذي تعتبر ردود فعله "محدودة" مع الردود الأخرى العنيفة رمزياً ومعنوياً من شريحةٍ اجتماعيةٍ واسعةٍ من المواطنين.
لم يشهد الأردن، سابقاً، هذا الشرخ الحادّ المرتبط بالدين والثقافة العامة، فعادةً ما كانت هنالك "منطقة وسطى"، تقف عليها أغلبية المجتمع. لكن، مع الأحداث في سورية، وانقسام المجتمع تجاهها، ثم الانقلاب العسكري في مصر، وبروز التيار الإسلامي، ولاحقاً صعود "داعش" في المنطقة، وما حدث في الموصل مع المسيحيين والأزيديين، كان ذلك كله يحفر بعمق في هواجس (ومخاوف) الفئات الاجتماعية المختلفة، العلمانيين واليساريين ونخبة من الليبراليين والمسيحيين، وانتقل إلى الخطاب السياسي والإعلامي، عبر دعواتٍ إلى الحدّ من "الموارد" التربوية والمجتمعية التي يتغذى عليها تيار متعاطفٌ مع تنظيم داعش صاعد في الأردن.
ومع ارتفاع وتيرة المواجهة بين الأردن و"داعش" إقليمياً ومحلياً، بداية من عملية حرق الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، مروراً بمواجهاتٍ بين الأمن ومجموعة مؤيدة للتنظيم في إربد (شمال)، ثم قتل أحد مؤيدي التنظيم أفراداً من المخابرات العامة، وعملية نفذها أحد أعضاء التنظيم على الحدود الأردنية السورية، من الخارج، أدت إلى قتل أفراد من الجيش والأمن، عزّز ذلك كله المناخ العام ضد التنظيم، الأمر الذي استثمرته نخبة من الليبراليين واليساريين، فبدأت تدعو، بوضوح أكثر، إلى تغيير المناهج التعليمية، والتخلص مما اعتبرتها "مواد داعشية"، تغذّي ثقافة التطرف والعنف.
لم يستجب وزير التربية والتعليم لتلك الدعوات، وبدت الوزارة في "حالة إنكار"، ثم تغيّر الموقف الرسمي بصورة مفاجئة، وبدأت تتسّرب مقتطفات من التغييرات التي أجرتها الوزارة على الكتب المدرسية، جزء كبير من التسريبات غير دقيق، وهدف إلى تهييج الرأي العام، ما أحدث مناخاً عاماً قلقاً من وجود أجندةٍ رسميةٍ مرتبطة بالدعوات السابقة، تستهدف المضمون "الإسلامي" في الكتب المدرسية، مما انعكس على الحملات الانتخابية، وأصبح جزءاً من السجال العام في البلاد. جاءت أحداثٌ أخرى لتعزّز حالة الانقسام والتوتر الاجتماعي، عندما اعتقلت السلطات أمجد قورشة، أستاذ الشريعة في الجامعة الأردنية، ثم ناهض حتر، الذي أعاد نشر رسم كاريكاتوري، اعتبره كثيرون استهزاءً بالذات الإلهية، ولاحقاً اغتيال حتّر، وهو مسيحي يساري، كانت له مواقف معادية بشدة للإسلاميين ومؤيدة لنظام بشار الأسد، مما أثار قلقاً للمرّة الأولى من بزوغ حساسيات "مسلمة- مسيحية". وهكذا توالت التطورات التي تكشف عن تحوّل اجتماعي، بدأ يتجذّر، ويتمثل في حالة الشرخ على أسس هوياتية وثقافية بين نخبةٍ من اليساريين والليبراليين وتيار مجتمعي عام تغلب عليه سمة المحافظة الدينية.
ارتبط الانشقاق الاجتماعي، إن جاز التعبير، أولاً بالتطورات الإقليمية، ثم انتقل إلى الداخل، بدأ عبر ترويج "فزاعة داعش" من نخبةٍ متخوفةٍ من الإسلاميين، أصبح لديها هاجس انزياج المجتمع والثقافة الاجتماعية إلى التطرّف الديني، ثم برز رداً على هذه الدعوات، وخشيةً منها، خصوصاً في ما يتعلق بالكتب المدرسية، هاجس "الهوية الإسلامية" لدى الشريحة الاجتماعية العريضة.
خلال تلك التطورات، ومع تدحرج كرة الثلج، لم تحرّك الحكومة ولا مؤسسات الدولة ساكناً، لتعرّف أين تقف من هذه الصدامات والمواجهات الافتراضية (على شبكات التواصل الاجتماعي) وفي المجال العام، ولم تتدخل لتعيد تأطير النقاش في سياقه المطلوب، بل الطريف أنّ الدولة اختبأت بعد موجة الاحتجاجات وراء عباءة "أساتذة الشريعة" والقادة الإسلاميين في المجتمع، في محاولةٍ للتخفيف من شعور استهداف "الهوية الإسلامية"، وعمد وزير التربية والتعليم إلى استحضار آياتٍ كثيرة، ربما بعدد التي حذفت من الكتب المدرسية، ليؤكّد أنّه لا يستهدف الهوية الإسلامية، ولم يطفئ ذلك من نار القلق المجتمعي، ولم ترعب تهديدات وزير الإعلام المتخوفين من التعديلات، باستخدام "العين الحمراء" ضد الاحتجاجات، فانطلقت في اليوم التالي إذاعاتٌ، بعضها محافظ دينياً وأخرى منوعة، لمهاجمة التعديلات، والتأكيد أنّها تستهدف "الهوية الإسلامية".
لاحقاً، وصف منسق حركة ذبحتونا (معنية بأمور الجامعات والتعليم العام)، فاخر دعاس، المشهد بأنه "انتصر الذنيبات (وزير التربية والتعليم) على نقابة المعلمين، وخسرت الحكومة معركة تعديلات المناهج ... بـ "النقاط". فاستخدام المعلمين سلاح الدين في مواجهة تعديل المناهج سهّل من مهمة الذنيبات، حيث استخدم السلاح نفسه في الرد عليهم. ويُعرف عن الدنيبات استمتاعه في استخدام هذا السلاح، بل ويعتبره ملعبه الرئيسي. وكان مؤتمره الصحافي بمثابة إعلان رسمي عن فشل "الهجمة الليبرالية على المناهج"، ابتداءً بالخطاب الديني الذي استخدمه الذنيبات، مروراً بالحجج والبراهين "الدينية" التي واجه بها منتقدي التعديلات، وانتهاءً بالتملص من تصريحات نائب رئيس الوزراء، جواد العناني، بأن التعديلات تأتي لتخفيف التطرّف في المناهج المدرسية، حيث اعتبر الذنيبات هذه التصريحات "رأياً شخصياً، ولا تمثل الحكومة". وكان مسك ختام هذا الفشل الحكومي كتاب وجهه الوزير الذنيبات الأربعاء إلى إدارات المدارس، بتقديم مقترحاتهم وآرائهم حول التعديلات الأخيرة على الكتب المدرسية كونها "طبعة تجريبية".
واعتبر أحد أقطاب الدعوة إلى تعديل المناهج والتخلص من "الداعشية" فيها، ذوقان عبيدات، التعديلات سطيحة، وإساءة لفكرة تغيير المناهج، لكنه في المقابل أقرّ بأنّ "البعد الإسلامي" لم يُحذف منها، بل أضيف البعدان الوطني والإنساني، وتمّ تخفيف حجم الكتاب المدرسي، وهو أمر جيّد، على حدّ تعبيره.
بدأت نخب سياسية وفكرية تتنبّه إلى خطورة "الشرخ" الثقافي المجتمعي غير المسبوق، سواء من الاتجاه الليبرالي أو حتى الإسلامي، فصرّح أحد أبرز قيادات جبهة العمل الإسلامي، زكي بني ارشيد، بأنّه لا تعارض بين الإسلام والدولة المدنية، ثم كتب مقالاً في موقع "الجزيرة نت"، عن الدولة المدنية، وأنّها ليست ضد الدين بل الاستبداد، فيما وجّه الوزير والسفير الليبرالي الأسبق، مروان المعشّر، كلاماً واضحاً، في محاضرة له على هامش معرض عمّان الدولي للكتاب، حول المضمون نفسه؛ أي أنّ الدولة المدنية ليست ضد الدين، بل ضد الاستبداد، وأنّ زعيم حزب النهضة التونسي، راشد الغنوشي، أعلن إيمانه بها، وتابع المعشر قائلاً: مجنون من يفكّر باستبعاد الدين من المجال العام.
هل ستنجح محاولات تخفيف حدّة التجاذب والاحتقان، وتبريد الهواجس المتبادلة "الداعشية" في مقابل "الهوية الإسلامية"؟ أم سنجد أنفسنا أمام تجذّر أكبر لاحقاً لذلك، مما ينذر بانتقال عدوى الانقسامات المحيطة، في مصر وسورية إلى المجتمع الأردني؟