قال تودوروف، في كتابه "الخوف من البرابرة"، إنه كان يأمل أن يحلّ التفاوض بين الدول والشعوب محل الحروب بعد نهاية الحرب الباردة. ولكن آماله، وربما آمال العديد من أصحاب الدعوات الإنسانية لم تتحقق. فنهاية الحرب الباردة لم تضع شعوب العالم أمام مقتضيات السلام، بل أمام مطالب الحياة الجديدة التي بدا فيها أن زوال خطر الحرب النووية والعسكرة والتصنيفات الأيديولوجية لم يكن غير وهم.
وبحسب كتابه، فقد نشأت لدى الشعوب مطالب أخرى نجمت عن الوضع الجديد: فمنها شعوب كانت قد نُحّيت عن تقاسم الثروات من قبل، وهي تريد (أو تشتهي) الاستفادة مما هو موجود في العالم كلّه بحكم ما تملك من قوة عسكرية ضخمة لم تقدّم لها أي فائدة من قبل، ومن بين هذه الشعوب يأتي الروس في رأس القائمة. ويُسمي شعورها: "الشهية". واللافت في سلوك الدول التي تنتمي إليها هذه الشعوب أنها لا توفر أي وسيلة من أجل بلوغ هذا الهدف، ولم يعد لديها معايير أخلاقية أو أيديولوجية يمكن أن تردعها عن القبول بأي ممارسات تضمن لها الحصول على جزء من ثروات الأرض التي "حُرمت" منها.
ومنها شعوب يتسم شعورها بـ"الحقد"، وقد نجم موقفها من تاريخها الذي اتسم بالإذلال من قبل الدول الأكثر ثراء (أقرأ: "الدول الرأسمالية"). وهي تشمل بلدان العالم العربي والإسلامي المستضعفة التي نُهبت ثرواتها على مدى أكثر من مئتي عام. ويتوجّه الحقد لدى مثل هذه الشعوب نحو الدول التي تتحمل المسؤولية عن الفقر الذي تعيش فيه.
ومنها شعوب اتسم سلوكها بـ"الخوف"، وهي شعوب بلدان الغرب الأوروبي والأميركي في الغالب، وخوفها يأتي من شعوب بلدان المجموعتين السابقتين، فهي تخشى المنافسة الاقتصادية والعسكرية من "بلدان الشهية"، كما يحدث اليوم في أوروبا التي تبدو مذعورة ومعجبة في آن واحد بالسلوك الروسي. وتخشى "الهجمات" المادية كالتفجيرات والاعتداءات الإرهابية من شعوب البلدان الفقيرة التي نهبت ثرواتها من قبل، وهي تستقبل اليوم مهاجريها الفقراء.
وما العمل؟ فمن الواضح أن كل واحدة من هذه المشاعر لا تجد حلاً للمعضلات التي تواجهها إلا بسلوك الطرق الحربية، لا السبل التفاوضية السلمية. هذا ما يظهر حتى اليوم، وأخطر هذه المشاعر علينا نحن في البلدان المنهوبة، هي مشاعر الشهية، ومن الواضح مثلاً أن الشهية الروسية، وقرينتها الصينية المهذّبة، تبدو منفتحة على توابل الشرق العربي اليوم. واللافت أن الخوف الأوروبي أو الأميركي من مشاعر الحقد يبدو لهم أشد خطورة من الشهية الروسية، بحيث يجعل القارة بالكامل تحاول أن تسترضي تلك الشهية (وقد تحسدها) بأن تسمح لها بالتهام ما تشاء من مراعينا التي سبق لهم أن نهبوها.
يبدو تودوروف في معظم الكتاب وكأنه يحاول التخلّص من استنتاجاته الرهيبة، غير أن الوقائع التالية، في العقد الثاني من القرن الحالي، أثبتت راهنية الكثير منها، وقد رحل الرجل عن عالمنا قبل أن يعرف النتائج الأخيرة لتقاسم الشهوات العجيب.