ترامب ومؤسّسية تحمي نفسها

11 سبتمبر 2018
+ الخط -
(1)
فيما يبحر الرئيس الأميركي، سباحة حرّة على نهجه الداعي إلى إعلاء المصالح الأميركية وحدها، عبر شعار"أميركا أولاً"، كان متوقّعا أن يقع ذلك النهج في تناقضٍ متنامٍ مع ثوابت رعاها المجتمع الدولي، ورسّخت دعائمها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1938- 1945). لعل من بدهيات تلك المفاهيم إيجاد نوعٍ من التوازن الإيجابي بين المصالح القومية لكل دولة قطرية والمبادئ التي روعي أن تجنّب هذه الدول الوقوع في حروب ومواجهات ومعارك، مثل التي أفضت إلى هلاك ملايين البشر في الحرب الثانية. صارت مبادئ حفظ السلام والأمن الدوليين هي التي عزّزت مفهوم "المجتمع الدولي" القائم على مبدأ واضح المعالم، هو التعاون وليس التصارع، على التفاهم، لا على الاختلاف. ذلك مبدأ استوجب التوافق على الالتزام بسياساتٍ دولية، رعتها هيئة الأمم المتحدة، عبر ميثاقها الأممي وأجهزتها وهيئاتها وأذرعها الفاعلة، من أجل عالمٍ آمن ومستقر. وبداهة أيضا أن أي اختلالٍ في تطبيق تلك الالتزامات يترك "المجتمع الدولي" عرضةً لما قد يتهدّد أمنه واستقراره.
(2)
حمل شعار ونهج "أميركا أولاً"، في طيات توجهاته، نيةً لإحداث اختلالٍ في التوازن بين المصالح القُطرية والالتزامات التي أقرّها المجتمع الدولي. حين وقف معمر القذافي، في منبر الجمعية العامة، وقذف نسخةً من ميثاق الأمم المتحدة إلى الأرض، مشيراً أنه لا يسوي الحبر الذي كُتب به، فإن في مسلكه استخفافاً بمبدأ راسخ للتعاون الدولي. وحين تنظر إلى إدارة ترامب التي تراجعت عن التزامات الولايات المتحدة تجاه المجتمع الدولي ومؤسّساته، فيما يتصل، مثلا، باليونسكو وقضايا المناخ ومقرّرات اتفاقيات دولية بشأن التعاون النووي وقضايا المناخ واللاجئين والهجرة، وجديدها تنصّل الولايات المتحدة من مساهماتها في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) لضعضعة أوضاع هؤلاء اللاجئين، فإن ذلك المسلك لا يختلف كثيراً عن استخفاف القذافي بمبادئ المجتمع الدولي.

(3)
لا يختلف الناس بشأن أثر التحوّلات المعقدة التي أنتجتها ثورة الاتصالات والمعلوماتية، وهي تختزل الزمان والمكان، بما يتجاوز ما بدا من "سلحفائية" في العمل المؤسّسي في إدارة العلاقات بين الدول والشعوب. صارت للإعلام وأذرعه المشاهدة والمقروءة والمسموعة سطوة عالية الوتيرة، سريعة الأثر، بما أبطأ من فعالية مؤسسات اتخاذ القرارات المؤثرة في العلاقات بين الدول. لعلّ دبلوماسية "تويتر" التي يتبعها الرئيس الأميركي نوعٌ من الهرولة لاستباق فعالية المؤسسات التنفيذية، وأهمها وزارة الخارجية، وقد بدت جميعها كأنها تلهث للحاق بما يقرّره ذلك الرئيس، قولاً أو فعلا. تسمع للناطقة باسم البيت الأبيض، سارة ساندرز، فتراها تجاهد لتلحق بما يصرّح به الرئيس، إبانة مزيدة، أو تعديلاً خجولا. على النحو نفسه، ترى الأجهزة التشريعية تلهث لملاحقة أداء الرئيس، بل الهوة آخذة في الاتساع بين حزب الرئيس، الجمهوري، والرئيس نفسه، وبانت الشروخ الداخلية في صفوفه، في مداولات مجلسي النواب والشيوخ.
(4)
رشح إلى صحيفة نيويورك تايمز، ذائعة الصيت، أن ثمّة كيانا خفيا داخل البيت الأبيض، يهدف إلى مقاومة الرئيس ترامب في ممارساته التي يرى أعضاء الكيان أنها تعمل، ليس فقط لإضعاف المؤسّسية الراسخة، بل تهدّد مقرّرات الدستور الأميركي نفسه. ويمثل مسلك الصحيفة الأميركية، بما نشرت عن ذلك الكيان المعارض داخل البيت الأبيض، وجهاً جديداً للمواجهة التي بلغت حدود العداء بين الرئيس ترامب والإعلام الأميركي الذي اتضح أن الرئيس، في ملاسناته، يتّهمه اتهاماً صريحاً بأنه إعلام كاذب.
(5)
الساحة التي اختارها الرئيس الأميركي، لبسط توجهاته وتصريحاته وتعليقاته، هي ساحة "تويتـر" عبر الشبكة العنكبوتية، بما بدا وكأنه تجاوز لمؤسّسية الإدارة الأميركية وهيبتها، هي الساحة نفسها التي اختارها كيانٌ داخل الإدارة نفسها، يسعى إلى التأثير على تجاوزات الرئيس، ومحاولة كبح جماح التطرّف في قراراته وتصريحاته. بقي للرئيس ترامب إزاء ما يتهدّد صلاحياته، أن يصعّد انفعاله وغضبه، فيطالب القضاء الأميركي بفضح محاولات زعزعة الثقة بالرئيس، وربما قصد إجبار صحيفة نيويورك تايمز على الإعلان عمّن يقف وراء الكيان الخفيّ الذي يتآمر على الرئيس داخل بيته الأبيض. ذلك صراع قد يمسّ مبادئ لها قدسية متجذّرة في الدستور الأميركي، تتصل بحرية الرأي واستقلال أجهزة الإعلام، وسيكون للرأي العام الأميركي قول فصل في ذلك الصراع، بلا شك. وستكون الممارسة الديمقراطية الأميركية نفسها عرضة لاختبار حقيقي في الانتخابات النصفية المقبلة.