الولايات المتحدة في معركة الهوية

19 يوليو 2019
+ الخط -
كلما ظن الأميركيون أن رئيسهم، دونالد ترامب، قد وصل أخيرا إلى قاع الانحدار الأخلاقي والسياسي، وأنه لا قاع بعد ذلك، فاجأهم بأن للقاع دركا أسفل آخر، وبأنه لا يتردّد في بلوغه. جديد حلقات هذا المسلسل، الذي لا يكاد ينتهي، كان هجوما عنصريا شنّه ترامب عبر "تويتر"، يوم الأحد الماضي، ضد أربع نساء، ينتمين لأقليات مختلفة، ويمثلن الحزب الديمقراطي في مجلس النواب الأميركي، أتبعه بجملة تصريحاتٍ مسعورةٍ، لم تتوقف، يصر فيها على موقفه. مضمون تصريحات ترامب وتغريداته قام على تشكيك ضمني في أميركية وولاء النساء الأربع، اللائي وصفهن بـ"الفريق"، وطالبهنّ بالعودة إلى البلدان التي جئن منها. اللافت هنا أن ثلاثا منهن ولدن في الولايات المتحدة. ألكسندريا أوكاسيو-كورتيز، مولودة في نيويورك وتمثلها في مجلس النواب، ويرجع أصلها إلى جزيرة بورتوريكو في البحر الكاريبي، وهي مستعمرة خاضعة للولايات المتحدة، من دون أن تعطى صفة ولاية، ويحمل سكانها الجنسية الأميركية. أيانا بريسلي، من الأقلية السوداء، مولودة في ولاية أوهايو وتمثل إحدى دوائر ولاية ماساتشوستس في مجلس النواب. رشيدة طليب، وهي من أصول فلسطينية، مولودة في ولاية ميشيغن، وتمثلها كذلك في مجلس النواب. أما الرابعة، وهي إلهان عمر، فقد ولدت في الصومال، وهاجرت طفلةً إلى الولايات المتحدة وتجنست فيها، وتمثل اليوم إحدى دوائر ولاية مينيسوتا. بمعنى آخر، الأربع مواطنات أميركيات، وهذه المواطَنة هي الأرضية الأساس التي أهلتهنَّ إلى أن يترشحن للكونغرس والعمل فيه.
لا يعني ذلك كله شيئا لترامب الذي يبدو أنه لا يؤمن بأن المواطنة هي معيار الانتماء أميركيا، بقدر ما أن العرق الأوروبي الأبيض هو المحدّد الأساس في هذا السياق. ومن ثمَّ، هو لم يتردد في القول: "غريبٌ أن نرى الآن عضوات الكونغرس الديمقراطيات (التقدّميات)، اللواتي جئن أصلاً من بلدان تُعتبر حكوماتها كارثة كاملة وشاملة، والأسوأ، والأكثر فساداً، وليست ذات كفاءة.. وفي الوقت نفسه، يخبرن شعب الولايات المتحدة، أعظم وأقوى أمة على وجه الأرض، بشراسة كيف ينبغي أن تتم إدارة حكومتنا!". وتساءل: "لماذا لا يعُدن ويساعدن في إصلاح الأماكن المنهارة تماماً والموبوءة بالجريمة التي جئن منها، ثم يعُدن، ليوضحن لنا كيف تم ذلك؟". أبعد من ذلك، لم يتردد ترامب بالقول: "إذا لم تكن سعيدا في الولايات المتحدة وإذا كنت تشتكي طوال الوقت فتستطيع ببساطة أن ترحل".
تصريحات موغلة في العنصرية. وإلى زمن قريب، كان يُعتقد أنه لا مكان لمثل هذه اللغة في 
الحياة العامة الأميركية، إذ من كانوا يتحدثون بها كانوا ينظر إليهم أنهم هوامش. إلا أنه منذ أعلن ترامب ترشحه للرئاسة في منتصف عام 2015، وجد الخطاب العنصري طريقه إلى قلب الحياة العامة الأميركية ونقاشاتها، فلم يتردّد ترامب في مهاجمة الأميركيين من أصول لاتينية أو أفريقية أو مسلمة. بل إنه لم يتردد في مهاجمة النساء، والإحالة إليهنَّ بلغة بذيئة، وكذلك المعوَّقين جسديا. وكان ذلك كله يتم علنا ومباشرة وأمام شاشات التلفزة. في عالم السياسة الأميركية الذي كان سائدا لعقود، قبل خوض ترامب غمارها، كان مثل هذا الخطاب العنصري كفيلا بأن يقضي على آمال أي مرشح أو مسؤول، غير أن ترامب، مرشحا، قلب قواعد أميركية كثيرة متعارفا عليها رأسا على عقب. وهو منذ أن أصبح رئيسا، مطلع عام 2017، مستمر في العبث بالقواعد والتقاليد الأميركية التي كان يُظن أنها راسخة.
المفارقة، في هذا السياق، أن التقارير الواردة من البيت الأبيض تؤكد أن ترامب ومستشاريه يرون أن هذا الخطاب العنصري (طبعا ينكرون أنه عنصري)، ورقة رابحة في التمهيد لحملتهم الانتخابية الرئاسية شتاء العام المقبل. بل إن تقارير تؤكد أن مستشاري ترامب فوجئوا بتغريداته العنصرية يوم الأحد الماضي، وبدأوا يتباحثون في كيفية احتواء تداعياتها، إلا أنهم انتهوا مقتنعين بمنطقه بأن مماهاة الحزب الديمقراطي في أذهان الناخبين الأميركيين مع "فرقة" النائبات التقدّميات الأربع تجعل الحزب يبدو يساريا متطرّفا. وفعلا، صوّت أغلب الأعضاء الجمهوريين في مجلس النواب الأميركي، يوم الاثنين الماضي، ضد قرارٍ يدين تصريحات ترامب على أنها عنصرية، وكان واضحا تركيزهم على وصف الحزب الديمقراطي حزبا اشتراكيا، في محاولةٍ لحرف موضوع النقاش. صحيحٌ أن قرار إدانة ترامب مرَّ في مجلس النواب، ذلك أن الديمقراطيين هم الأغلبية فيه، إلا أنه لا يحمل قيمةً قانونية، بقدر ما يحمل قيمة معنوية. هنا يبرز بعدٌ آخر في الموضوع، ذلك أن الركن الثاني في حسابات ترامب الانتخابية، من وراء عاصفة التصريحات العنصرية التي أطلقها، يهدف إلى تعبئة قاعدته الشعبية وتحشيدها، إذ إنها قاعدة تضم مؤمنين بتفوق العرق الأبيض. وبالتالي، تصبح حتى القيمة المعنوية لقرار مجلس النواب غير ذات معنى كبير بالنسبة لترامب، ما دام أنها تعزز وضعه بين ناخبيه وجمهوره.
تقود هذه النقطة إلى مسألة أخرى متعلقة بالشرخ الحاد الذي تعرفه الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة حول صورة الولايات المتحدة وطبيعتها وأساس المواطنة فيها. بسبب تزايد أعداد الأقليات، هجرة وولادة، سيتحول البيض الذين يعانون من انخفاض معدلات الخصوبة إلى "أكبر أقلية" في أميركا عام 2045. وهذا بالطبع لا يرضي كثيرين منهم يشعرون أنهم يخسرون امتيازاتهم في "أميركا الحقيقية" أو "أميركا البيضاء"، كما يسمونها، بسبب زحف "أميركا البُنِّيَةِ" وزيادة "الملونين". يدرك ترامب مخاوف تلك الكتلة العنصرية بين البيض (قطعا، لا تمثلهم كلهم)، وهو لعب على هذا الوتر الحساس منذ اليوم الأول لترشحه، عندما أعلن حربا شعواء على الهجرة والمهاجرين من دول غير أوروبية. وفي شهر يونيو/حزيران 2018، أعلنت إدارة ترامب تشكيل لجنة خاصة لفحص ملفات التجنيس في أميركا، وهو الأمر الذي وضع حوالي عشرين مليون مواطن تحت سيف سحب الجنسيات منهم. وواضحٌ من تصريحات ترامب الجديدة أنه يخلط، متعمدا، بين أن يكون المرء أجنبيا وأن يكون مواطنا أميركيا من أصول أجنبية أو مولودا خارج الولايات المتحدة.
المشكلة أن هذا يجري في ظل شلل كبير أصاب فرعي السلطة الآخرين، وخصوصا التشريعي، فترامب أحكم سيطرته على الحزب الجمهوري، وقليل منهم من يجرؤ على تحدّيه في 
الكونغرس. ولعل في تصويت أربعة أعضاء جمهوريين فقط من أصل 199 على إدانة تصريحاته في مجلس النواب ما يغني عن شرحٍ كثير، فجل الأعضاء يعلمون أنهم سيدفعون ثمنا انتخابيا في دوائرهم إن هم تحدوه. أما السلطة القضائية، فقد تمكّن ترامب من تعيين قاضيين أيديولوجيين فيها، معزّزا سيطرة اليمين عليها، ويبدو أنه ستتاح له الفرصة لتعيين قاض آخر في المدى المنظور. ومن ثمّ، فإن ترامب الذي يسيطر على السلطة التنفيذية، ويسيطر على مجلس الشيوخ في الكونغرس عبر حزبه، وعزّز نفوذه في مؤسسة القضاء، والمدعوم بشكل أعمى من قاعدة انتخابية فيها متعصبّون كثيرون، يشعر باطمئنان كبير وهو يسيء استخدام السلطة، ويتجاوز على المؤسسات والقضاء، بل ويتعدّى على ما كان يظن، إلى وقت قريب، أنها قيم أميركية مقدسة، كالمساواة على أساس المواطنة. من هنا نفهم تخوينه الإعلام في أميركا، بل وحتى الحزب الديمقراطي، وهو ما نراه يتجدد اليوم عبر اتهام أعضاء كثيرين بعدم حب أميركا، وكراهيتهم الجيش والأجهزة الأمنية. باختصار، تفقد أميركا تحت رئاسة ترامب الإجماع الوطني تدريجيا، وفي حين أن لغة التقسيم العرقي والسياسي التي يستخدمها قد تنفعه انتخابيا، إلا أنها بلا شك تضر أميركا وتمزّقها بشكل قد يصعب إصلاحه. الكارثة أن الرجل قد يكسب فترة رئاسية ثانية، ذلك أن الحزب الديمقراطي ممزّق بين القاعدة الشابة الأكثر ليبرالية، والمؤسسة التقليدية الأكثر محافظة. وإذا ما نجح هذا الرجل لفترة رئاسية ثانية، قد تجد أميركا نفسها تحارب من أجل القيم التي لطالما تفاخرت بها، واعتبرتها مصدر قوتها وتميزها.