المُعضِلَة الروسية

23 اغسطس 2024
+ الخط -

لا تبالغ روسيا عندما تقول إنّها تواجه حلف شمال الأطلسي (ناتو) في أوكرانيا، بل إنّ الحلف، وزعيمته الولايات المتّحدة، وحلفاءها البريطانيين والألمان والفرنسيين، تحديداً، لا ينكرون ذلك، وإن كانوا يصرّون على أنّهم يدعمون أوكرانيا بالسلاح والتدريب والمعلومات الاستخباراتية، من دون أن تكون لهم قوات في الأرض. لكنّ هذا لا يُقلّل من حجم الصدمة بالأداء الهزيل والفاضح للقوات الروسية في أوكرانيا، وتكبّدها خسائرَ بعشرات آلاف من القتلى والجرحى في صفوف جنودها، فضلاً عن انهيار سمعة السلاح الروسي، التقليدي وما كان يُعَدُّ مُتقدّماً، كدباباتها الحديثة، وصواريخها الفرط صوتية، وطائراتها المقاتلة من الجيل الخامس.

حتّى تاريخ غزوها أوكرانيا في فبراير/ شباط عام 2022، كان ينظر إلى روسيا قوّةً عالميةً عظمى، أو هكذا كان الرئيس فلاديمير بوتين حريصاً على تصويرها. لكنّ هذا كلّه تهاوى في العامين ونصف العام الماضيين. وإذا كان زحف قوات "فاغنر" الروسية، بقيادة زعيمها الراحل يفغيني بريغوجين إلى موسكو، في يونيو/ حزيران عام 2023، والذي لم يتوقف إلا بوساطة من وكيل روسيا، الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، عُدَّ إهانة بالغة لبوتين وقتها، إذ كاد نظامه يتداعى، فإنّ اجتياح القوات الأوكرانية لمقاطعة كورسك الروسية منذ أكثر من أسبوعين يمثل أكبر إهانة تتلقاها روسيا منذ الحرب العالمية الثانية في أربعينيّات القرن الماضي.

في السادس من أغسطس/ آب الجاري، اجتاحت بضعة آلاف من قوات النُخبة في الجيش الأوكراني المقاطعة الروسية الحدودية مع أوكرانيا، كورسك. حينها، ذهبت أغلب التحليلات إلى أنّ ذلك الاجتياح سيكون محدوداً زمانياً وجغرافياً، خصوصاً في ظلّ فائض القوة الساحق لمصلحة روسيا. واعتبرت أغلب التحليلات أنّ كييف أرادت من ذلك إيصالَ رسالةٍ لموسكو بأنّها قادرةٌ على نقل الحرب إليها في سبيل تغيير حسابات الكرملين، وتحسين موقعها التفاوضي معه. اليوم، يكاد الهجوم الأوكراني المفاجئ أن يتمَّ أسبوعه الثالث، ومع ذلك ما زالت قواتها تتقدّم في المقاطعة، بحيث وصل عمق تقدّمها إلى أكثر من 35 كيلومتراً، مسيطرةً بذلك على أكثر من 80 تجمّعاً سكنياً ضمن مساحة تزيد عن 1150 كيلومتراً مربّعاً. ثالثة الأثافي في إعلان القائد العام للجيش الأوكراني، أولكسندر سيرسكي، إنشاءَ مكتبٍ عسكريٍّ في كورسك "للحفاظ على القانون والنظام، وضمان الاحتياجات ذات الأولوية للسكّان". أمّا الجيش الروسي، فإنّه يتخبّط في محاولاته التصدّي للهجوم الأوكراني المباغت، خاصّة مع تعقّد عمليات إيصال الإمدادات إلى جنوده على الجبهة، بعد تفجير القوات الأوكرانية ثلاثة جسور على نهر السيم في المقاطعة.

سمح الغرب لروسيا بأن تفتك بالثورة السورية، وهو ما وَلَّدَ انطباعاً واهماً بأنّها فعلاً قوّةٌ عالميةٌ عظمى

مُرجَّحٌ أن تنجح القوات الروسية في النهاية في صدِّ التوغّلِ الأوكراني وتحرير كورسك. إلّا أنّ هذا لا يعني أنّ أوكرانيا لن تُكرّر مثل تلك الهجمات في طول الحدود المُشترَكة، التي تبلغ قرابة 1600 كيلومترٍ مربّعٍ، أغلبها غير مؤمّنٍ بشكل جيّد بسبب استنزاف القوات الروسية في الحرب داخل أوكرانيا. الأخطر، أنّه حتّى ولو نجحت روسيا في كسر الهجوم الأوكراني وتحرير أراضيها، فإنّ ذلك لا يُقلّل حجم الكارثة بالنسبة لها، دع عنك الإهانة البالغة التي لحقت بكبريائها، إذ لم تجرؤ قوّةٌ منذ الاجتياح النازي الفاشل للأراضي الروسية عام 1941 على تكرار تلك التجربة. صحيح أنّ أوكرانيا تستخدم أسلحةً غربيةً مُتقدّمةً في عمليتها الحالية، غير أنّ ذلك لا يُقلّل من حجم الفشل الروسي الذريع وتهاوي صورتها قوّةً عظمى مهابةَ الجانب. حتّى تهديدات الكرملين بأنّ استخدام أوكرانيا أسلحةً غربيةً لضرب العمق الروسي سيقود إلى حرب نووية، لم تعد تردع العواصم الأوروبية، دع عنك واشنطن. وها هي واشنطن ولندن وبرلين وباريس تسمح، واحدةً تلو أخرى، لكييف بتغيير قواعد الاشتباك وكيفية استخدام الأسلحة المُقدَّمة لها، من دون أن تنفّذ موسكو أيّاً من وعيدها. لقد وصل الحال بروسيا إلى أن تصبح التهديدات المُتكرّرة لرئيسها السابق، ونائب رئيس مجلس الأمن القومي الحالي ديمتري مدفيديف، مادَّةً للتندّر في الإعلامين، الأوكراني والغربي.

لا ينبغي التغاضي عن أنّه لا موسكو ولا بكين قدّمتا يوماً دعماً حقيقياً ذا معنى لقضايانا

طبعاً، ليست من مصلحتنا نحن العرب هذا الاختلال الرهيب في موازين القوى بين الغرب، وتحديداً الولايات المتّحدة، وروسيا، وربّما الصين كذلك، والتي لم تُختبَر عسكرياً بعد، ويبدو أنّها حريصةٌ على تجنّب إهانة مشابهة تلحق بها في تايوان، من دون أن يعني ذلك أنّها لا تعمل بسياسة النَفَس الطويل لتحقيق أهدافها الاستراتيجية. المشكلة أنّ الغرب سمح لروسيا بأن تفتك بالثورة السورية منذ عام 2015، وهو ما وَلَّدَ انطباعاً واهماً بأنّها فعلاً قوّةٌ عالميةٌ عظمى، غير أنّه حاصرها وخنقها اقتصادياً وسياسياً بعد اجتياحها المتعثّر لأوكرانيا، ثمَّ استنزفها عسكرياً. ونحن، عرباً، وإن كانت مصلحتنا أن يكون هناك عالم مُتعدّد الأقطاب عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، إلّا أنّه لا ينبغي أن نتغاضى عن حقيقة أنّ لا موسكو ولا بكين قدمتا يوماً دعماً حقيقياً ذا معنى لقضايانا، كما في فلسطين، أو حتّى لإيران في مواجهتها مع إسرائيل منذ اغتيال الأخيرة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنيّة، في طهران، في 31 يوليو/ تمّوز الماضي، وإيران تسعى للحصول على أنظمة دفاع جوية وطائرات روسية متقدمة من دون جدوى.

باختصار، كشف الدعم الغربي لأوكرانيا حدودَ القوة الروسية التقليدية، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، مع بقائها قوّةً نوويةً عظمى يحسب لها حساب. أمّا نحن العرب، فلا أحد يأخذنا في اعتباره، لا في مستوى القوّة التقليدية أو النووية أو غيرها. حتّى روسيا، لا ترى فينا حليفاً قوياً يستحق أن تغامر بدعمه متجاوزةً خطوطَ الغرب الحُمر، كما تجاوز خطوطها الحُمر في أوكرانيا.