مصر... المَقْطورَةُ التائهة

16 اغسطس 2024
+ الخط -

كانت مجزرة ميدان رابعة العدوية التي ارتكبتها قوات الأمن المصرية في 14 أغسطس/ آب 2013، وراح ضحيتها مئات المعتصمين السلميين في الأقلّ، ترسيخاً لنجاح الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو/ تمّوز من العام نفسه، ضدّ الرئيس محمّد مرسي، أول رئيس مدني مُنتخَب في تاريخ مصر. لكن، نجاح الانقلاب العسكري ضدّ نظام سياسي شيء، و"إنقاذ" مصر من "براثن" الإخوان المسلمين، ومنع تحولها دولةً فاشلةً كما زعم الإنقلابيون، عسكريون ومدنيون، شيء آخر، فالحقائق لا تكذب، والواقع كما هو راهناً لا يُجامل أحداً. لقدّ تحوّلت مصر في الـ11 عاماً الماضية (عشرة منها تحت الحكم الرسمي والمباشر لقائد الانقلاب عبد الفتّاح السيسي) دولةً شبه فاشلة، تتنازل عن أراضيها السيادية، وتبيع أصولها الوطنية، وتصادر ممتلكات مواطنيها وعقاراتهم، وتكاد تواجه أزمةً مائيةً وجوديةً، فضلاً عن انعدام وزنها إقليمياً ودولياً. دع عنك أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية... وفوق ذلك، الفساد والقمع.

في 11 عاماً مضت شهدنا عديدين ممن تورَّطوا في مؤامرة الانقلاب أو التصفيق لها، مدنيين وعسكريين، يُعربون عن ندمهم، خصوصاً أنّ كثيرين منهم انتهى بهم الأمر مُستهدَفين ومُعتقَلين ومُغيَّبين ومُطارَدين ومُشرَّدين. لم يعد هؤلاء ينكرون أنّ المظاهرات التي صُنِعَتْ أواخر شهر يونيو/ حزيران 2013 ضدّ رئيس كان بالكاد قد أكمل عامَه الأول في الحكم من دون أن يُمَكَّنَ منه، لم تكن ثورةً شعبيةً، وإنّما كانت جزءاً من مُخطَّطٍ لانقلاب عسكري أُعدَّ له بشكل مُتقَن في دوائر الدولة العميقة، وفي عواصمَ إقليميةٍ، عربيةٍ وغير عربيةٍ، وفي عواصمَ عالميةٍ. ولا يُجادَل في حقيقة أنّ الانقلاب كان إجهاضاً لمصر أكثر منه إجهاضاً للإخوان المسلمين، إلا مُكابِرٌ ومُعانِدٌ، أو مستفيدٌ ومتواطئ. يكفي أن تلقي نظرةً مَسحيَّةً فاحصةً على واقع "المحروسةِ" اليوم لتعلم أنّها لم تعد محروسةً، بل باتت نهباً مُستباحاً وقد تكالب عليها لصوص محلّيون وأجانب. "أمَّ الدنيا" ليست بخير.

خلال فترة رئاسة مُرسي، أشاع الإعلام التابع للمؤسَّستَين الأمنية والعسكرية فِرْيَةً فاضحةً، أنّ "الإخوان" يريدون بيع سيناء وقناة السويس لقطر، والتنازل عن مقدّرات البلاد لها. سقط حكم مرسي الشكلي، ونُكِبَ "الإخوان" في مصر، وأمسك العسكر بمقاليد الأمور مباشرةً في 2013. ولم تكد تمضي سنواتٌ ثلاثٌ على الانقلاب، حتّى كان نظام السيسي يتنازل رسمياً عن جزيرتَي تيران وصنافير المصريتين في البحر الأحمر للسعودية. أمّا سيناء، التي كان كارهو "الإخوان" يزعمون أنّهم ينوون التنازل عنها لفلسطينيي قطاع غزّة، فهي خاضعة اليوم لحكم مليشيا "اتحاد القبائل العربية"، المتحالفة مع الجيش، التي يرأسها تاجر سلاح ومُخدّرات معروف، إبراهيم العرجاني. وهذا هو نفسه مالك شركة هلا للسياحة التي تاجرت بمعاناة أهل قطاع غزّة، الذين يتعرَّضون لحرب إبادة إسرائيلية، وفرضت عليهم أتاوات بآلاف الدولارات في مقابل كلّ شخصٍ منهم يحاول الخروج بحثاً عن السلامة له ولعائلته. وإذا كان رهن مقدّرات مصر أو التنازل عنها لقطر فِرْيَةً وُجِّهت لمرسي ولـ"الإخوان" ثبت بطلانها، فإنّ رهنَ مقدّرات كثيرة لمصر والتنازل عنها للسعودية والإمارات حقيقةٌ لا جدل فيها، في ظلّ حكم السيسي. يكفي أن نُذكِّر هنا ببيع نظام السيسي بعض أصول شركات الدولة المدرجة بالبورصة للصندوقَين السياديين، السعودي والإماراتي، في مدى السنوات الماضية. والأمر نفسه يُقالُ عن استحواذ الإمارات على مدينة رأس الحكمة المصرية، في الساحل الشمالي الغربي للبحر الأبيض المتوسّط، في مقابل 22 مليار دولار.

مصر أشبه ما تكون بسفينة مخروقة ببوصلة معطوبة تخوض غمار بحر لجِّيٍّ تتقاذفها أمواجه

ورغم تلك الصفقات التي يصفها نظام السيسي بأنّها "صفقات إنقاذ"، إلّا أنّ المديونية المصرية ارتفعت من 43 مليارَ دولارٍ في يوليو/ تمّوز 2013، أيّ غداة الانقلاب على مرسي، إلى 168 مليارَ دولارٍ اليوم. أما سعر صرف الدولار في مقابل الجنيه، فقد ارتفع في الإطار الزمني نفسه من سبعة جنيهات إلى نحو 50 جنيهاً. والأمر نفسه يقال عن نسب التضخّم والفقر... إلخ، وهي الرزايا التي ما زال السيسي يُلقي بمسؤوليتها، بعد عشر سنوات له في الحكم، على ثورة 2011، وحكم مرسي الشكلي، الذي دام عاماً. في هذا السياق، يتناسى السيسي وعوده الكثيرة للشعب إن هو أمهله سنة أو سنتين، ثم صار شعاره إلى "ما فيش" و"أجيب منين؟"، ومع ذلك يتغاضى الإعلام المصري الرسمي عن ذلك كلّه، مع أنّه هو نفسه الذي كان يتندّر بصفاقة على مرسي عندما كان يشكو من مؤامرات الدولة العميقة ضدّ خططه وسياساته مخاطباً إيّاه: "إذا مش أدّ الشيلة متشيلش" (!) ثالثة الأثافي، أنّ النظام رفع أسعار السلع الأساسية والوقود والكهرباء مرّاتٍ ومرّاتٍ، وعندما وجد أنّ ذلك لا يسدّ نهم الفساد في مصر، لجأ إلى مصادرة عقارات المواطنين، كما في جزيرة الورّاق، وغيرها من الجزر النيلية، من دون أن يحلّ ذلك شيئاً في أزمات مصر، التي هي أقرب ما تكون إلى ثقب أسود.

يقال الأمر نفسه عن تقليص إثيوبيا حصّةَ مصر في مياه النيل، غير مكترثةٍ بوعيد القاهرة وتهديداتها الفارغة، وانعدام الفاعلية المصرية في ثلاثة ملفَّات إقليمية أساسية تمسّ أمنها القومي، العدوان الإسرائيلي في قطاع غزّة في حدودها الشمالية الشرقية، والحرب الأهلية في السودان عند حدودها الجنوبية، وكذلك الفوضى في ليبيا في حدودها الغربية. لقد تحوَّلت مصر السيسي مُلحقاً إقليمياً خفيف الوزن، تتنازعه الرياض وأبوظبي، في حين يئنُّ مواطنوها فقراً وفساداً. للأسف، مصر اليوم ليست قاطرةً للوضع العربي، بل هي مقطورةٌ، وهي أشبه ما تكون بسفينة مخروقة ببوصلة معطوبة تخوض غمار بحر لجِّيٍّ تتقاذفها أمواجه.

أترى هي لعنة خطيئة الانقلاب وجريمة رابعة؟ لا أشك في ذلك.