الفشل صناعة انقلابية

01 مايو 2015

عمل لـ(دوغي فاسيزرين)

+ الخط -

تحدثنا، في ما سبق، عن المجلس العسكري الفائت في مصر بعد ثورة 25 يناير، وإدارته المرحلة الانتقالية أنه يقدم آنذاك نموذجا في الإدارة يسمى "الإدارة بالكوارث". كنا ندلل على ذلك بأحداث البالون، وماسبيرو، ومحمد محمود، ومجلس الوزراء، واستاد بورسعيد، والعباسية، والتي اتخذت أشكالا عدة، أزهقت فيها أرواح، وكان الاتهام الثابت، في ذلك الوقت، يرد ذلك إلى الطرف الثالث، وضرب الناس أخماسا في أسداس في محاولاتهم تعيين هذا الطرف الثالث، أو "اللهو الخفي". إنها صناعة الفشل.

وفي فترة الرئيس المنتخب، أصر هؤلاء، وفي إطار حملات إعلامية، متابعة الهفوات وتضخيم الأخطاء والقيام بعملية إفشال متعمدة، وشن غارات إعلامية يومية، من كل نوع، حاولت أن تؤكد في أذهان الناس ذلك الفشل والتقصير والإهمال وعدم القدرة والعجز للقيادة المنتخبة في أي عمل، يمكن أن تقوم به في إدارة البلاد. ولم تكتف تلك الأبواق الإعلامية، آنذاك، بشن هذه الحملات فيما يتعلق ببقايا متعددة، تتعلق بمعاش الناس، لكنهم استهدفوا، أيضاً، شخص الرئيس، مستخدمين مفرداتٍ لا يمكن أن تصدر عن معارضة، وأوصاف غير مقبولة في هذا المقام، وبدت عملية الإنجازات مستحيلة، في إطار مصادرات إعلامية، تجعل من أي محاولة للقيام بمشاريع ليست إلا محاولة لبيع البلاد وإذلال العباد، فيشيرون إلى أزمات عدة، بدأت تتراكم، بحيث جعلت هذه المعيشة ضيقا وضنكا. إنها صناعة الإفشال.

ثم تكشف بعد ذلك، ومن أفواههم، إعلاميين أو رجال أعمال أو أجهزة أمنية أو مخابراتية، تؤكد على أدوار قامت بها في الخفاء، كُشف عنها الستار من بعد انقلاب الثالث من يوليو، لتعبر عن أدوار يفتخر بها بعض هؤلاء، في محاولة للتأكيد على أدواره المؤثرة في التمكين لهذه العملية الانقلابية، والترسيخ لهذه الحالة. وبدت هذه الاعترافات مع تراكمها، وكذلك التسريبات، وتصريحات صدرت عن قيادات في المخابرات العامة، بل وعن وزراء، مثل وزير الداخلية السابق، ليؤكد على هذا الدور المتعمّد في اصطناع الأحداث، وعملية الإفشال المقصودة التي أحاطت بكل عمل، وتشويه كل قول، ومحاولة كيل الاتهامات بالباطل من كل مكان، في محاولة ليس فقط للتشويه، ولكن لعملية إفشال متعمد في هذا المقام، من دون أن ننكر أن بعض الفشل الحقيقي طال بعض هذه السياسات والممارسات، ما جعل الرئيس المنتخب يدلي باعتذار مباشر عن هذه الأمور.

بدا الانقلابيون، وعلى رأسهم المنقلب، وكل سدنته وأجهزته وأذرعه، إعلامية وأمنية، بل وقضائية، تمارس صناعة تتعلق بمحاولة ترويج الفرعون الجديد والتمكين له. وبدا بعض الكهنة من الإعلاميين القدامى يتحدثون عن مرشح الضرورة والاستثناء، ومرشح لا يحتاج إلى برنامج سياسي، وأنه كان مطلوبا من الناس، ومن ثم فلا أحد يطالبه بأي شيء. وبدا أيضا الإعلاميون يصورونه في صورة المخلّص، ويتحدثون في مقارنات بين الرئيس المدني المنتخب "المختطف" والرئيس المنقلب، والتحدث عنه مخلصاً وفرعوناً منتظراً سيحقق نهضة مزعومة، وإنجازاً غير مسبوق، واقترن ذلك ببعض بروفات لمشروعات وهمية، كمشروع العلاج بالكفتة، المنسوب إلى اللواء عبدالعاطي. إنها صناعة الفشل.

في ظل هذه الأجواء، أتى ذلك الانقلاب برئيس المحكمة الدستورية، آنذاك، ليدير البلاد قرابة العام. وقبل أيام، قابله المنقلب ليسلمه كتابا يحتوي إنجازاته خلال ذلك العام، وكأنه، بالفعل، حقق إنجازات؛ ففي عهده، حدثت المذابح، وخرجت القوانين التي تجرم كل ممارسة لما من شأنه الاحتجاج أو التعبير بالرأي. اعتبر المنقلب تلك إنجازات، والتي لم تكن، في حقيقة الأمر، إلا كوارث متتابعة، اتخذت شكل مذابح ومجازر وكوارث تشريعية، حولت البلاد إلى سجن كبير، وإلى مقتلةٍ، قامت بها الأجهزة الأمنية، ومارست كل أعمال الخنق والحرق والقتل بدم بارد. إن كانت تلك إنجازات، فما هي الكوارث إذاً؟ إنها صناعة الفشل.

ثم أتى، بعد ذلك، صعود المنقلب، ليتصدر المشهد عياناً بياناً بشخصه، وما وراءه من شبكات المصالح ومكونات الدولة العميقة القميئة، وتحالفات الثورة المضادة المقيتة، ليكون كل هؤلاء في تحالف جهنمي أسود، يحاول أن يحمي مصالحه بالبطش والقمع والاعتقال. وبدا هذا الأمر مع حملة إعلامية وإعلانية، تتحدث عن خير منهمر، وأحوال نهوض تلوح في الأفق، ومشاريع قومية صار الإعلان عنها وكأنها عادة يومية، وإنجازات مصطنعة وهمية، حذر منها المختصون، بدت هذه المشروعات محاولات لبيع الأوهام، وتسويق الأحلام، مثل مشروعات "فنكوش" ليس لها من أصل. وفي حقيقة الأمر، كان الفشل صنعتهم، حتى وهم يقيمون "موالد النجاح الكاذب" و"مهرجانات الاحتفالات الزائفة". إنها صناعة الفشل.

وها هي الكوارث تترى هنا وهناك، لتعبر عن أن صناعة الفشل صناعة انقلابية، تارة تشير إلى القمع والبطش، وأخرى تشير إلى التقصير والإهمال، فهذا غرق لمركب محملة بالفوسفات في قنا، وهذه مياه مسمومة ومسممة في الشرقية، وهذه سرقة آثار مهمة في الإسكندرية، إضافة إلى انفجار خط مواد بترولية وتسربه إلى مياه الشرب المغذية لست محطات في المحافظة. وفي القاهرة، اشتعلت النار في قطار، قبل أن يتحرك من محطة سكة حديد مصر، واصطدم قطاران بمحطة مترو العباسية. كوارث بعضها من بعض، فضلا عن حوادث الطرق والمواصلات وعمليات قتل الجنود في سيناء التي تكررت وتراكمت، تنبئ عن استخفاف شديد في حماية الجنود في معسكراتهم وأبنيتهم وكمائنهم، وأصبحت الجنازات العسكرية وإعلان الحداد تقليدا تقوم به دولة الفشل في هذا المقام. إنها صناعة الفشل.

ومع كل هذه الكوارث، لا ينسى الانقلاب قيامه بحفلات واحتفالات ومهرجانات، فبمناسبة عيد تحرير سيناء، يقيم مهرجانا لا يكرم فيه الجنود، أو فريق من دبلوماسيين وقانونيين حرروا طابا، لكنه كرم فنانات في ذلك الاحتفال. وينظم الاحتفال بعيد العمال في معقل أكاديمية الشرطة، وها هو وزير الشباب يتفتق ذهنه عن أفكار تتعلق باستكمال الدوري بلا جمهور، واستبدال الجمهور الحقيقي بجمهور من طلبة الكليات العسكرية. لعمري، الأمر لا يقتصر فحسب على كوارث التقصير والإهمال والبطش والاعتقال، لكنه يمتد، للأسف الشديد، لعسكرة كل أنواع الاحتفال. ألم أقل لكم إن الفشل صناعة انقلابية.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".